الثلاثاء، 4 يناير 2011

ج 4 مع زينب الغزالي




[ ج 4 ] مع زينب الغزالي .. إهداء إلى حرائر الضفة

 الجزء الرابع
الأجزاء السابقة
ولكن الله الف بينهم ..

أمسكت بباب الزنزانة ووضعت عيني على الثقب الذي يراقبونني منه بين الحين والحين، ورأيت الإمام حسن الهضيبي المرشد العام، وأدركت أنهم قبضوا عليه، فوضعت فمي على الثقب وقرأت قوله تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنون، إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله ) آل عمران : 139-140، فكان لقاؤه يؤنسني ويشغلني عن آلامي وهذا أمر لا يحس بجلاله غير المؤمنين المتآخين في الله، فالإسلام يربط بين قيادته وجنده برباط وثيق.

عودة إلى دوامة التعذيب والمساومة ..

ذات مساء فُتحت الزنزانة وفاجأني الشيطان صفوت بالسوط يضرب به كل شئ، ثم أخذني بوحشية من ذراعي واخذني إلى مكتب يواجه السجن رقم (2) وأجلسني على مقعد تجاه مكتب، ما لبث أن جاء شيطان آخر يسألني عما إذا كنت زينب الغزالي ولما أجبت بالإيجاب خرج كما دخل، وبعد فترة دخل ثلاثة جنود كأنهم خارجون لتوهم من جهنم، طول أجسامهم مرعب وعرض أجسامهم كذلك، وبعدهم بقليل دخل رجل فسألهم عما إذا كانوا عرفوني ورأوني، وأجابوا بالإيجاب، وقالوا بأن موعد موتي قد حل.

ثم باشروا بتعذيب شباب الإخوان ظناً مهم أن ذلك سيدفعني إلى بعض ما يريدون فأرسلوا رجلاً يتصنع النصيحة والخير، وقدم لي نفسه على أنه عمر عيسى وكيل النيابة ( وقد عرفت فيما بعد أنه أحد شياطينهم ) ثم بدأ بالحديث عن أنه يريد التفاهم معي لإنقاذي من أنياب وبراثن هذه البلاوي وأخبرني بأن جميع قيادات الإخوان بمن فيهم حسن الهضيبي قد اعترفوا إلا أنا ..!!

فقلت له بعد صمت : أعتقد أن الإخوان المسلمين وأنا معهم ومنهم لم نفعل شيئاً يغضب البشر سوى المدرك للحقيقة ماذا فعلنا ؟ كنا نعلم الناس الإسلام فهل هذه جريمة ؟!

فقال لي أن من أهداف الإخوان قتل عبد الناصر وتخريب البلد والتحريض على ذلك ..

فقلت : ليس من أهداف الإخوان المسلمين قتل عبد الناصر أو غيره أو تخريب البلد، لأن الذي خرب البلد هو عبد الناصر، وإن غايتنا أكبر من ذلك، إنها الحقيقة الكبرى قضية التوحيد في الأرض، توحيد عبادة الله وحده، إقامة القرآن والسنة، إنها قضية ( إن الحكم إلا لله ) فغايتنا الإصلاح لا التخريب ، البناء لا الهدم .

والإسلام لا يعرف لغة التآمر، لكن يجابه الباطل بالحق ويوضح للناس الطريقين، طريق الله تعالى وطريق الشيطان " الذين يسلكون طريق الشيطان مرضى بؤساء نقدم لهم الدواء في إشفاق وعطف والدواء في أيدينا - دعوة الله - ، دين الله ، شريعة الله " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) الإسراء 182.

وانقلب وجه الشيطان الذي كان يدّعي أنه وكيل نيابة، ثم اوقفوني على وجهي إلى الحائط وتركوني ساعات اتمزق بما اسمع من تعذيب الإخوان، ثم جاؤوا يساوموني مرة ثانية ويهددوني في تلفيق قضايا لزوجي وأن الهضيبي والإخوان اعترفوا بكل شئ، فقلت : صحيح الإخوان قالوا كل حاجة ولذا تجلدونهم وتصلبونهم على الخشب !

وكان خلفهم أربعة من زبانيتها يضربون بسياطهم الأرض التي كانوا يجلدون الإخوان فيها فقلت : هل هذه السياط يا وكيل النيابة من مواد القاونون في كلية الحقوق ؟ فضربوني على وجهي وهو يقول : هو انت يا بنت الـ.. حا تجنينا! أنا أقدر أدفنك زي ما بدفن عشرة كل يوم منكم ! نظرت ثانية لوكيل النيابة وقلت له : لماذا لا تكتب هذا الكلام في محضرك ؟ إذا كان معك محضر !!

فانصرف الوكيل وجعل الزبانية يضربونني بالسياط بوحشية وأنا أردد يا لطيف ! يا الله ، أنزل بي عونك ، ألبسني سكينتك ، ثم ضربوني على وجهي وأخذوني إلى الزنزانة وأغلقوها ، وبعد دقائق سمعت آذان الفجر فصليت ودعوت الله : " إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " !!

مندوب رئيس الجمهورية ..

تركوني في الزنزانة ثلاثة أيام، ثم أرسلو لي مندوب رئيس الجمهورية يقول أنه يريد التفاهم معي وأن البلد كلها تحبني وأنه سيخرجني من السجن الحربي لو تفاهمت معهم ، وأنهم سيعينوني وزيرة الشؤون الإجتماعية بدل حكمت أبوزيد، فقلت له : هل جلدتم حكمت أبو زيد وأطلقتم عليها الكلاب ؟!

فقال لي : أن الهضيبي وسيد قطب وكل الإخوان اعترفوا وأنه سيخرجني من السجن بل سيوصلني بنفسه فبشرط أن أخبره عن موقفي من سيد قطب والهضيبي ومن هم الوزراء الأربعة المطلوب قتلهم ..

قلت له : أولاً الإخوان المسلمون لم يدبروا خطة للإستيلاء على الحكم، ولا لقتل أحد ، الموضوع هو دراسة للإسلام ولمعرفة أسباب تأخر المسلمين والحالة التي وصلوا إليها .

ثم شكرته وقلت أنني لم أفكر يوماً أن أكون موظفة ولا حتى وزيرة ، أنا قضيت عمري في خدمة الإسلام وعملي كله تطوع لخدمة الإسلام، فخرج ودخل الجلادون يضربونني بشدة ثم أعادوني للزنزانة ..

وجوه غالية تدخل زنزانتي ..

في اليوم التالي رأيت من ثقب الزنزانة وجوه غالية : علية حسن الهضيبي، غادة عمار، غير أن الألم أخذ بي فغطى كل مشاعري وأحاسيسي، وأخذت أدعو الله سبحانه وتعالى وأسأله أن يدفع عن بناتي وأخواتي شرور الطغاة، كنت مستغرقة أفكر : علية حامل في شهورها الأخيرة ؟ كيف اعتقلها الطغاة ؟ وغادة ؟ ماذا فعلوا برضعيتها الصغيرة ؟ كيف تركتها ؟ غنها لقسوة وفجور ووحشية ، يا للبشر من حكامهم عندما يرتدون أردية الجاهلية ، فتغطى كل مشاعرهم وتضيع ضمائرهم فيصبحون جلادين لرعاياهم ! ويلك يا عبد الناصر !

ويفتح الزبانية الزنزانة مصطحبين علية الهضيبي وغادة عمار يدخلانهم ويخرجان ويغلق باب الزنزانة، وتقبل علية تأخذني بين ذراعيها تقبلني وأنا منصرفة عن نفسي والدنيا وتتساءل في ألم : أنت الحاجة ؟ والتفت إلى غادة فأرى عينيها ممتلئتين بالدموع تغرقان وجهها ..فسألتها في ألم : أم تعرفيني ؟ فتجيب : لا .. لا يا حاجة لقد تغيرت كثيراً ونقص وزنك إلى حد مخيف.. قلت : هذا أمر طبيعي أنتِ لا تعرفين الهول الذي أعيش فيه، وفوق ذلك لا أتناول من الطعام إلا ملعقة من السلطة في اليوم والليلة.

فجلست تسألني عما ترى فأتلوا عليها الآية الكريمة عن اصحاب الأخدود ( النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) وتبكي غادة في صمت وتتساءل عليه في عجب : أيمكن أن يحدث هذا مع النساء ؟

علية طيبة القلب لم تستطع أن تصل بخيالها إلى المدى الذي يمكن أن يبلغه حكم عبد الناصر من عداوة لله ثم للدعاة.

وفاة رفعة مصطفى النحاس ..

نقلت لي علية نبأ وفاة مصطفى النحاس باشا فخنقتني عبارات الوفاء وأنا أدعو ربي " اللهم إنك غني عن عقابه وهو فقير إلى رحمتك، اللهم فارحمه " وحدثتني عن جنازته وشعارات الإخوان وسط مسيرة الجنازة، ومحاولة أجهزة أمن الدولة الوقوف أمام هذا الطوفان وتعليق الإعلام الخارجي عما حدث، فقد انتهزت الجماهير فرصة وفاة النحاس لتبدي رأيها صريحاً واعتقادها سليماً فهتفت معلنة مدوية تشق بهتافاتها سماء مصر : " لا زعيم بعدك يا نحاس " فكأنها بتلك الصرخات تعبر عن كتمان مكبوت في النفوس والقلوب والمشاعر كأنها تقول " أيتها الزعامات الباطلة اسقطي " " أيتها الأقنعة الزائفة انكشف الغطاء ووضح خداعك وغشك " " ايتها الخشب المسندة ستحرقك النار .. نار الحق فتصبحوا رماداً تذروه الرياح يا سرابا وأهل الحق ظمآي " .

ثم سألت علية عن عائلتها فأخبرتني أنه هرب لاجئاً إلى السودان، وأن الأم مريضة تائهة بين سمية المريضة وهالة الرضيعة ثم هدأتها وسألتها عن ضياء الطوبجي هل تم زفافه ؟ وكان الجواب أنهم قبضوا عليه ويده في يد عروسته والمأذون، وقبضوا على عروسته وهي في ملابس الزفاف !!!

وهزّني نبأ القبض على الفتيات وتساءلت : إذا كان القصد هو القبض على كل من له اتصال بالإخوان، وتدخلت علية لتقول : بل على كل من يرى مؤدياً للصلاة وبدأت تحدثني عن الإعتقالات الوحشية في تفتيش المنازل ليلاً ونهاراً ولم أكن بحاجة إلى هذا الحديث الذي حدث معي وأكثر ..

فقلت لها : أن التتار حين حاربوا الإسلام لم يفعلوا ما فعله عبد الناصر وزبانيته !!

ظللت ثمانية عشر يوماً وأنا في ملابسي الملوثة بدماء النزيف، وغيرتها بما كان مع غادة فوجدت على جسدي أثر السياط تمزقه وصاحت باستنكار وألم، فهذا مما لا يمكن أن يحدث مع النساء في نظرهما ، وحاولت التخفيف عني فحمدت الله على أن كان في سبيله ..

وجاء ليل المساومة والعذاب ..

فتح الزبانية الباب وأخذاني إلى المكتب مرة أخرى ووجدت رجلاً يسألني : أنت زينب الغزالي ؟ وصار يساومني ويعدني بأنه سيعيدني للبيت وسيعيد لي المركز العام للسيدات المسلمات وسيرجع المجلة كذلك، فقلت : أنا لا أريد شيئاً وبالنسبة للمركز والمجلة فقد فوضت أمري إلى الله، ودعوة الله ماضية في طريقها وكلمة الحق قائمة وسيفنى عبد الناصر ودولته وتبقى كلمة الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبونن ولا تزال طائفة من أمة الإسلام قائمة على الحق مدافعة عن دين الله، مجاهدة في سبيل الله، وأدعو الله أن أكون من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ومن المجددون لأمر الإسلام ..

فجعل يساومني وأنا أرفض ثم صرخ في هستيريا بالسب واللعن والشتم وعاد التعذيب مرة ثانية بالسوط في كل مكان من جسدي.

عودة إلى الزنزانة ..

كانت علية وغادة نائمتين فجلستا وازعجهما الدم الذي ينزف من قدمي فقلت الحمد لله وطلبت منه العودة إلى النوم، ومرت ليالي وآلام الجلد تأخذ مني كل مأخذ، وانا أكتم آلامي داخل نفسي إشفاقاً مني على علية وغادة .

وهبط ليل آخر ..

وأعادوني لمكتب التحقيق مرة ثانية، ودفعني المحقق برجله وأسقطني على الأرض في وحشية وقال أتعرفين من أنا ؟ انا وحش الحربية فقلت : ليس هنا إلا الوحوش والكلاب، لم أر احداً من الآدميين منذ دخلت إلا المظلومين من الإخوان .

وجاء محقق آخر يساومني بأن الإخوان اعترفوا ، وان الأعياء يثقلني وأنه سيستجوبني غداً بعد أن أفكر وأعادوني إلى الزنزانة ..

استراحة قصيرة ..

أذن الفجر فصلينا، ودعوت الله أن يثبتنا على الحق ..

وما أقسى الليل ..

وجاء الليل الذي أصبحت أخافه وأخشاه، وأخذت علية وغادة تدعوان لي وللإخوان، وأخذني الشياطين إلى مكتب التعذيب ثم بدأت المساومة بإخراجي واعتباري شاهد ملك واسقاط القضية وأن الهضيبي وقطب طلاب حكم وانني مخدوعة فيهم ، وانا صامتة لا انطق بكلمة، ثم عرض علي ورقة وقلم يريد مني ان اكتب ما يريده !! فقلت نحن لم نتفق على شئ .. ولا أدري ما اكتب !!

فكتبت : كنا نجتمع مع شباب الإخوان ندرس كتب الفقه والسنة والحديث والتفسير ، كنا ندرس سيرة الرسول والصحابة، وكيف قامت الدعوة، وكيف نبني مجتمع مسلم ونمسح الجمهورية فماذا يخيف عبد الناصر ؟ فليس في حسابنا قتله ، والقضية اكبر من قتل شخص وهي فكرة مرفوضة !! من الذي امركم بتعذيبنا وقتلنا ؟ الصهيونية أم الشيوعية ؟!
ثم صرخ المحقق بالسباب والشتم واللعن وقال : اعدموها..!!

وجاؤوني بخطاب موقع ومختوم من عبد الناصر فيه :
بأمر رئيس الجمهورية تعذب زينب الغزالي فوق تعذيب الرجال !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق