الأربعاء، 29 ديسمبر 2010

[ ج 3 [ مع زينب الغزالي




توقيع : صهيب الحسن


[ ج1 ] مع زينب الغزالي
[ ج2 ] مع زينب الغزالي

[ ج 3 ] مع زينب الغزالي .. إهداء إلى حرائر الضفة



رابط الكتاب ::
من هنا

الباب الثالث ::

المؤامرة

بعد فشل محاولة إغتيالي وما أعقبها من خروج الشهيد سيد قطب، عشنا متوكلين على الله نعمل وخلف ظهورنا ما يدبر الفجار، غير أننا اخذنا ندرس ما وصلنا من أخبار عن رعب الفجار الحاكمين، إذ أصبحوا يتوهمون أن هناك حركة فكرية يقودها سيد قطب من داخل السجن، وتقودها وتعمل على تنفيذها جماعة الإخوان المسلمين، حيث تأكدت الأخبار بأن المخابرات الأميركية والمخابرات الروسية ووليتهم الصهيونية العالمية قد قدموا تقارير مشفوعة بتعليمات إلى عبد الناصر بأخذ الأمر منتهى الجد للقضاء على هذه الحركة الإسلامية، وإلا فسينتهي كل ما فعله عبد الناصر في المنطقة من تحويل عن الفكر الإسلامي وبث اليأس في النفوس ، وبالفعل فقد اعتبر عبد الناصر ذلك بمثابة قضاء تام على حكمه الدكتاتوري الغاشم.

ترجمت هذه التعليمات إلى اعداد قائمة من المطلوب إعتقالهم من الإخوان مطلع أغسطس 1965 من الشباب، يتصدرهم الشهيد سيد قطب ، زينب الغزالي الجبيلي، عبد الفتاح عبده إسماعيل، بالفعل فقد تم اعتقال سيد قطب، حيث كان بمثابة الصاعقة بالنسبة لجميع الشباب، لأن الهضيبي كان قد أوكل كل المسؤوليات لسيد قطب، حيث كانت اتصالاتنا كلها به، وكان علينا التواصل مع المرشد العام بشكل مباشر، واخذت الأخبار تتوالى بالقبض على مائة ألف من الإخوان في عشرين يوماً، وقد علمت أن سيدة فاضلة تناهز الخامسة والثمانين تدعى أم أحمد ألقي القبض عليها ، وهي من المناصرين للدعوة من يومها الاول وسارت مع الشهيد حسن البنا خطوة خطوة، وكان خبر اعتقالها مفزعاً ومؤثراً، لكني قلت لابن اختها بعد دقائق صمت أغرقتني بالألم : " إنه شئ جميل .. ما دام في الأرض التي ضاعت معالمها امرأة مؤمنة تعتقل في سبيل الله، وفي سبيل دولة القرآن ، وهي في الخامسة والثمانين، فمرحى مرحى يا جنود الله " ..!

وقبل أن يتم اعتقالي كنت قد أوصيت ابنتي في الإسلام بارسال مظروفاً يحوي مساعدات، وعلمت وأنا في السجن أن الطغاة قبضوا عليها واستولوا على هذا المال المخصص لمساعدة للفقراء والمحتاجين، علمت بذلك حينما جئ بها إلى زنزانتي فقلت : " حسبي الله ونعم الوكيل، الدنيا ساعة، اما الآخرة فهي دارنا والحساب هناك " ..!
وجاء دوري

اقتحم رجال الطاغوت منزلي فجر الجمعة 20 أغسطس 1965، بدون إذن تفتيش وقالوا لي : إذن ! أي إذن يا مجانين ؟ نحن في عهد عبد الناصر، نفعل ما نشاء معكم يا كلاب .. !

وعاثوا خراباً في منزلي، وقالوا لي : لا تغادري البيت إلى حين صدور أوامر أخرى، وأن البيت تحت الحراسة المشددة ومنعوني من التحرك وأنذروني بإلقاء القبض علي إن فعلت ذلك، وظننت الأمر متوقف عند هذا الحد كذلك، وبينما كنا نتناول الغداء مع شقيقتي وزوجها واولادها الذين جاؤوا لزيارتي، اقتحم الزبانية الطاغوت واعتقلوا الجميع، واستولوا على ما يزيد على نصف مكتبتي، وفقدت بعض المؤلفات القديمة في التفسير والحديث والفقه والتاريخ مما يعود تاريخ طبعه إلى أكثر من مائة عام، وصادروا كل ما أرادوا وللخزانة وقتها قصة عجيبة ..

فلما طلبوا مفتاحها تحججت بأن المفتاح مع زوجي المسافر، لكنهم طلبوا من رجل بفتحها بآلالات ومفاتيح مثل اللص المتمرس، ولما طلبت منهم إيصالاص قالوا في سخرية : " أنت مجنونة، أنت فاكرة نفسك شاطرة، إخرسي بلاش دوشة " ..!!

وقبضوا علي وأخذوني إلى السجن الحربي، ووقف رجل ضخم الجثة مظلم الوجه قبيح اللفظ يستجوبني، وانطلق يسب ويلعن بما لا يعقل ولا يتصور، اتضح فيما بعد أنه " رئيس النيابة " ..!!

ولما طلبت منه متعلقاتي قال : " يا بنت الـ .. نحن سنقتلك بعد ساعة، كتب إيه ؟ وخزنة إيه ؟ ومصاغ إيه ؟ أنت ستعدمين بعد قليل، إحنا سندفنك كما دفنا عشرات منكم يا كلاب هنا في السجن الحربي " ..!!

لم أستطع ان أجيب لان الكلمات كانت بذيئة الألفاظ سافلة، والسباب والشتائم منحطة بدرجة كبيرة، واخذوني بعدها إلى الزنزانة 24 ثم تضرعت إلى الله قائلة : اللهم أنزل عليّ سكينتك وثبت قدمي في دوائر أهل الحق، واربط على قلبي بذكرك وارزقني الرضا بما يرضيك " ..
في الطريق إلى الحجرة 24

رأينا الإخوان المسلمين معلقين على الأعواد والسياط تلهب أجسادهم العارية، والكلاب مسلطة تمزق أجسادهم بعد السياط ، كنت أعرف عدداً كبيراً من أولئك الشباب المؤمنين الأنقياء، أبنائي وأحبائي في الله، أصحاب مجالس التفسير والحياة الندية الذكية في داري، في دارهم ، في دار ابن أبي الأرقم، هذه الأنماط الفريدة في إنسانيتها، المترفعة بإسلامها، الموصولة بالسماء المرموقة بعين القدرة المنزهة المتمتعة بحضرة الله سبحانه وتعالى، شباب الإسلام، شيوخ الإسلام ..

هذا مصلوب على خشبة ..
هذا منكفئ على وجهه للحائط، والسياط تنزل عليه تأكل من ظهره ..
كل الوجوه فيها نور التوحيد .. لكن نزيف الدم من الوجوه والظهور شئ مخيف ..

في خضم ذلك كله ، صرخ شاب مصلوب على خشبة : " أماه ! ثبتك الله ! قلت : أبنائي، إنها بيعة، صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ، ورفع الشيطان يده يهوي بها على صدغي وأذني، فقلت : في سبيل الله وسمعت صوتاً كأنه يأتي من الجنة : اللهم ثبت الأقدام، اللهم احفظهم من الفجرة، لولاك ربي ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فثبت الأقدام إن لاقينا "..

وأخذت اليد الفاجرة تضربني مرة أخرى فقلت : " الله أكبر ولله الحمد، اللهم صبرا ورضا، اللهم شكرا وحمدا على ما أنعمت به علينا من الإسلام والإيمان والجهاد في سبيلك " ودخلت الحجرة المظلمة .
في الحجرة 24 ..

ابتلعتني الحجرة المخصصة للتعذيب المليئة بالكلاب التي تعلقت بكل جسمي، رأسي، يدي، صدري، كل موضع في جسمي، أحسست أنيابها تغوص ، فتحت عيني من شدة الفزع وأغمضتها بسرعة لهول ما أرى ، أخذت أتلو أسماء الله الحسنى مبتدئة ب " يا الله ، يا الله " وأخذت انتقل من اسم إلى اسم، بينما الكلاب تتسلق جسدي وأردفت أهاتف ربي : " اللهم اشغلني بك عمن سواك، اشغلني بك أنت يا إلهي يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد ، اشغلني بك، ألبسني أردية محبتك ، إصبغني بسكينتك، ارزقني الشهادة فيك والحب فيك، وثبت الأقدام يا الله، أقدام الموحدين " ومرت ساعات والكلاب تنهش جسدي ثم فتح الباب وأخرجت من الحجرة، وكنت أتصور ثيابي البيضاء مغموسة في الدماء، لكن يا لدهشتي ، الثياب كأن لم يكن بها شئ، كأن ناباً واحداً لم ينشب في جسدي، سبحانك يا الله، لك الحمد ، فتعجب الشيطان من عدم تمزيق الكلاب لي وقد تركت معها اكثر من ثلاث ساعات، ثم نقلوني الى الزنزانة 3 ..

الزنزانة رقم 3

ابتلعتني في ظلمتها، كان الضوء مخيفاً مرعباً لشدته لا تستطيع فتح عينيك، فعرفت أنه للتعذيب والإرهاق، فقد تم منعي من الذهاب الى دورة المياه للوضوء وحتى الشرب، وتعبت من الوقفة الطويلة في الزنزانة، فخلعت معطفي وفرشته على أرضها وتيممت لصلاة المغرب والعشاء، وجلست القرفصاء، لكن ساقي المكسورة لم تريحني فوضعت رأسي وتمددت على إسفلت الحجرة، لكنهم لم يمهلوني، حيث كانوا يراقبونني ..

كان بأعلى الزنزانة نافذة تطل على فناء السجن، حيث جاءوا بصليب من الخشب وصلبوا عليه أحد الشباب المؤمنين، وجلدوه وهو يذكر اسم الله ويستنجد به، وبعد نصف ساعة من الجلد قالوا لهذا الشاب الذي قد يكون مهندساً أو مستشاراً أو طبيباً : " يا ابن الكلب متى جئت إلى هنا ؟ " " متى ذهبت إلى منزل زينب الغزالي ؟ " واستمروا في تعذيبه ظنا أن ذلك سيضعف عزيمتي، وهكذا شاب يعاقب أخاه، وقلبي يتمزق عليهم، أخذت أناجي وأتضرع إلى الله طويلاً وأردد " اللهم اشغلني بك عنهم واشغلهم بك عني، اللهم ألهمهم الخير الذي يرضيك، اللهم احجب عني أصوات تعذيبهم، اللهم إنك تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، فرحمتك اللهم بعبادك " ..
الرؤيا

لا أدري كيف أخذني النوم وأنا أذكر الله، فلقد كان فضل خير، حيث فيه رؤيا مباركه هي إحدى رؤاي الأربع للنبي عليه السلام في محنتي :

" فلقد رأيت أنني أقف خلف رجل عظيم مهيب حيث أخذت أردد في سري : أتكون حضرة محمد عليه السلام، فإذا به يجيبني : " أنت يا زينب على الحق " قالها ثلاثاً، فقمت من النوم وكأنني ملكت الوجود، وأدهشني بعد ما نسيت ماأنا فيه وأين أنا، لا أجد ألم السياط، ولا الصلبان القريبة من النافذة، فقد نقلت إلى مكان آخر بعيد، وأخذت أصلي ركعات شكراً لله تعالى، وجعلت أردد في سجداتي : " ربي بم أشكرك ؟ إني لا أجد ما أشكرك به إلا أن أجدد بيعتي لك، اللهم إني أبايعك على الشهادة في سبيلك، اللهم أنا أبايعك على ألا يعذب أحد بسببي، اللهم ثبتني على الحق الذي يرضيك وأوقفني في دائرة الحق الذي يرضيك ! " وانتهيت من صلاتي، بعدها شعرت براحة وسكينة.

سمعت ضجة شديدة في الخارج عرفت أنها وردية أخرى من التعذيب، وسمعت المؤذن لصلاة الفجر فتيممت وصليت الفجر.

أمضيت على هذه الحال ستة أيام على التوالي، لا يفتح باب الزنزانة، لا أكل ولا شرب ولا دورة مياه، سوى تلصص الشيطان، ولك أن تتصور أخي القارئ العزيز كيف تستطيع أن تعيش هكذا ؟! ولا تنس أننا في شهر أغسطس، فهل تجيز اليهودية أو الوثنية ذلك ؟ فما بالك بالذين يدعون أنهم مسلمون ؟! هل يفعل ذلك أي كائن ينتمي للبشرية ؟!

يا الله كم جنى الطغاة على كرامة الإنسان، لكن اليقين يصنع الثبات، فلا تدهش أيها القارئ : لأنني استطعت العيش بدون ماء ولا طعام ولا قضاء ضرورة، لقد عشت هذه الأيام بأمرين :

  • الأول : فضل الله علينا بالإيمان والإسلام ، الذي يمنح صاحبه القوة والغلبة على المشقات والصعاب.
  • الثاني : تلك الرؤية المباركة التي خففت عني وشغلتني عن الأغيار المحيطة بي.
مساء اليوم التالي دخل الشيطان وهو يقول : قومي يا بنت الـ .. روحي المراحيض .. ولما اردت اغلاق باب المرحض رفض، فخرجت وقلت ارجعني إلى الزنزانة لا أريد شيئاً، ادخلي يا بنت الـ أمال إحنا حانحرسكم إزاي يا أولاد ...

أريد من القارئ أن يتصور معي هذا الموقف ؟ أي جاهلية وإلحاد يبيح ذلك ؟

عدت إلى الزنزانة أتمنى الموت إن كان لي خيراً، حتى لا أضطر للذهاب مرة أخرى إلى دورة المياه مع هذا الشيطان.

ثم اخرجوني وأوقفوني للتحقيق وقالوا : " أجلك انتهى النهارة ! يا بنت الـ ، فأخذت أفكر بما يقولون وأطلب السكينة من الله والأمن وأن ألقاه على الإسلام، وأخذت اتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة، واصلت التلاوة حتى ايقظني من استغراقي صفعة يد غليظة قاسية وأخذ الوحش يضربني بقسوة بالسوط على جسدي حيثما وقع.

ثم أعطوني أوراق وقالوا اكتبي كل معارفك على وجه الأرض، إذا لم تكتبي سنضربك بالرصاص، ثم اغلقوا الباب وجلست إلى الأوراق وكتبت فيها : " إن لي في كثير من البلاد أصدقاء عرفوني عن طريق الدعوة الإسلامية، فحركتنا في الأرض هي لله سبحانه، والله يسوق إلينا من يختار وجهته وطريقه.

إن غايتنا أن ننشر دعوة الله وندعو للحكم بشرعه، إنني باسم الله أدعوكم أن تتخلوا عن جاهيتكم وتجددوا إسلامكم، وتنطقوا بالشهادتين وتسلموا لله وجوهكم، وتتوبوا إلى الله من هذه الظلمة التي رانت على قلوبكم، وبلغوا برسالتي هذه رئيس جمهورتكم، اللهم إني بلغت اللهم فاشهد
".

ثم اخذوها وعادوا يسخرون بي إلى أن جاء مدير عام السجون الحربية ودخل تسبقه كلمات يقذف بها، لا تساويها في سفالتها أي كلمة سمعتها من قبل، اخذت انظر إليه بازدراء، وكانت في ايديهم الاوراق ثم مزقوها، فقال : خذوها دي ما فيش فايدة فيها ثم خرج، الا انه لم يلبث ان عاد فطرحوني أرضاً بقسوة ووحشية وقيدوني وعلقوني على خشبة كما يعلق الجزار ذبيحته وجلدت جلداً وحشياً، وكنت اردد اسم الله حتى اغمي علي، ثم وجدت نفسي بعدها في نقالة عاجزة عن الحراك والكلام، ثم اعادوني الى الزنزانة، ولما افقت من اغمائي وجدت نفسي مصابة بنزيف شديد طرقت الباب فكانت الاجابة سباب وشتائم، وظللت على هذه الحالة ليال قاسية : الام مبرحة ولا علاج ولا طبيب.


انتظرونا في الجزء الرابع ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق