ولكن الله الف بينهم
حلم أشبع الجائعة
كانت أمعائي تصرخ من الجوع وحلقي يكاد يتشقق من العطش ، وآلام جراحي تضرب جسمي, أخذتني سنة من النوم ، وأنا على هذا الحال ، فإذا بخلق جميل ، يرتدون حللا من الحرير ، مزركشة ، داخل مخملات مطرزة بالذهب ، ويحملون صحافا من الذهب والفضةعليها ما طاب من الأطعمة من لحوم وفاكهة لم أر مثيلا لها! ! . . فأخذت آكل من هذه ، وتلك ، واستيقظت من سنة النوم هذه ، فوجدت نفسي في شبع وري، فلا جوع ، ولا عطش !! بل إن مذاق ما أكلته من طعام كان لا يزال بفمي!! فأخذت أشكر الله وأحمده . (سبحان من اطعمها من عنده القادر)
صرعت الوحش الذي اراد افتراسي
أدخلوني لزنزانة اخرى وقال الضابط إبراهيم للضابط صفوت: اعمل معها ما شئت ، إنها تستاهل كل اللي يحصل ليها. . . ودخل صفوت وأطلق سبابه الصارخ : عبد الناصر أرسل في طلب شياطين من النوبة سينهشونك نهشا . . إلى أين تفرين منهم ؟ الوقت يمضي ، وكل دقيقة تقربك من النهاية ثم أغلق الباب خلفه . .وأخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة . . وحياني صفوت بعدة ضربات ملتهبة بسوطه المجنون . . وقال وهو يضربني : إن ما سيحصل لك اليوم لم يحصل لكلب أجرب في طاحونة!! وأغلق باب الزنزانة ثم انصرف . . وما مروري إلا دقائق قليلة حتى فتح باب الزنزانة مرة أخرى وامتلأت بحمزة البسيوني وصفوت وجندبين آخرين ! ! . .
وانطلقت القذارة من فم حمزة البسيوني بأبشع ما يمكن أن يتخيله إنسان . . سب فاضح صارخ وقال : "يا بنت
ال. .. أنقذي نفسك وقولي كل شيء . اعترف الهضيبي ، واعترف سيد قطب ، واعترف عبد الفتاح إسماعيل ،ووضعنا أصابعنا على كل شيء من واقع اعترافاتهم . . عرفنا منهم أن الهضيبي أمرك أن تقولي لعبد الفتاح إسماعيل بأن دم عبد الناصر مباح لأنه كافر. . كل واحد منهم تكلم ، وأنقذ نفسه وأنت ضيعت نفسك . . . ثم قال مهددا والشرر يتطاير من عينيه : ستعرفين كيف أنتزع منك كل ما نريده . . ستتكلمين أم لا؟.
ثم التفت إلى صفوت وقال : نفذ الأوامر يا صفوت . . . . ومن يعص الأمر من أولاد الكلب – مشيرا إلى الجنديين حوله إلى المكتب فورا . . وتولى صفوت إفهام الجنديين مهمتهما البشعة بأسلوب داعر صارخ الفجور، بعيد كل البعد عن الحياء. . مغمور في الانحطاط إلى أبعد ما يكون . . فقال لأحدهما في مجون : نفذ التعليمات – يا ابن الكلب – بعد إغلاق الزنزانة ، وبعد أن يتم التنفيذ، ادع زميلك ليقوم بدوره كذلك . . مفهوم!!؟! ! ثم أغلق الزنزانة وانصرف . .جلس الرجل يتوسل إلى أن أقول ما يريدون لأنه لا يريد أن يؤذيني، ومن جهة أخرى فإن عدم التنفيذ يلحق به ضررا بليغا وايذاءً جسيما. . قلت له بكل ما أوتيت من قوة : إياك أن تقترب منى خطوة واحدة . . إذا اقتربت ، سأقتلك . . سأقتلك . . سأقتلك ، فاهم ! ! .
كنت أرى الرجل ينكمش ويتقاعس غير أنه أخذ يقترب في خطوات ، ولم أدر إلا ويداي حول رقبته ، وأنا أصرخ بكل صوتي : "بسم الله ، الله أآبر. . وغرزت أسناني في عنقه ، وإذا به ينفلت من بين يدي، ويسقط تحت قدمي خائرا، يخرج من فمه زبد أبيض كرغاوى الصابون . . سقط الوحش تحت قدمي، جثة هامدة لا تنبض إلا بهذا الزبد الأبيض . . أنا التي تتربع على قمة الألم ، والتي مزقتها الجراح التي حفرتها السياط في كل موضع من جسمها! أنا التي غلفها الإعياء من كل الزوايا .. تصرع هذا الوحش الذي أمروه بأن يفترسني! !
لقد بث فيّ الله - جلت قدرته - قوة غريبة صرعت هذا الوحش ! ! (لا إله الا الله)وكانت معركة شر! ضارية انتصرت فيها الفضيلة على شراسة الرذيلة . .كان هذا علامة صدق ، وبشرى للمخلصين . . فالحمد لله ولا إله إلا الله . . إن الطغاة يخافون ويهزمون ،وأصحاب الرسالات خلف القضبان مجردون من كل شئ إلا من الإيمان بالله تعالى . . غير أن ثبات المؤمنين على الحق هو دائما شئ لا يستطيع المنهزمون في أنفسهم وضمائرهم بتقاعسهم عن الإيمان أن يفعلوه . يا إلهي ما أكرمك وما أوسع عطاءك . . أنت ربنا ورب كل شئ . . فهؤلاء الذين يأخذون بأمر الله يحاربون . .ويقاومون. . ولكن العاقبة دائما للمتقين . . وفتحت الزنزانة ودخل رأس الزبانية حمزة البسيوني ، والجلاد صفوت وجند آخرون ، ووقع نظرهم على هذا الوحش الممدد على الأرض ، والرغاء الأبيض يخرج من فمه . .فبهت الذي كفر؟! . . خرست الألسنة وتبادلوا نظرات زائغة حيرى . . ! . . وحملوا الجثة وأعادوني إلى زنزانة
الماء . .
من الفئران إلى الماء وبالعكس ! !
فإذا بي أرى خيوط متصلة من الفئران تنزل من النافذة كان أحدا يفرغها من كيس ! !
أخذتني رعدة شديدة، وشعرت برعب مريع ! ! . . أخذت أردد اللهم اصرف عنى السوء بما شئت وكيف
شئت ".. ورددت هذا الدعاء، حتى سمعت أذان الظهر، فتيممت وصليت وجلست أختم صلاتي، وأذكر الله حتى
أذان العصر فأديت صلاته . .وهنا دخل الوحش صفوت الروبي. . كانت الفئران قد انصرفت من النافذة من حيث أفرغت ولم يتبق إلا فأر أواثنان ! ! دارت عيناه في أنحاء الزنزانة في نظرات دهشة، وارتسمت على وجهه ألف علامة تعجب ! !
وكأن ذلك قد عز عليه ، فانصرف يسب ويلعن تلاحقه خيبة الأمل ! ! . . وأعادني إلى زنزانة الماء
بدأ رياض يهددني بأن هذه المرة هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ نفسي، فإما أن أعترف كما يريدون ، وأما الخلاص
مني نهائيا .
وقال : أنت فاهمة ربكم عنده جهنم صحيح ؟! جهنم هنا عند عبد الناصر. . الجنة عند عبد الناصر جنة موجودة
حقيقية . . وليست جنة وهمية خيالية مثل التي يعدكم بها ربكم إ! ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون
إلا كذبا ) الكهف.
ثم أخرجوني من الماء إلى الزنزانة المجاورة وأغلقوها ثم انصرفوا . . وفزعت إلى الله في صلاتي؟ أطلب منه أن يصرف عنى شر هؤلاء، كنت في صلاتي عندما دخل الزنزانة عدد من الجند يزيد على العشرة ومعهم ضابط بزيه الرسمي . ثم انضم إليهم حمزة البسيوني ، وصفوت الروبي .
قال صفوت لحمزة البسيوني : أوامرك يا باشا في بنت ال . . فقال حمزة البسيوني للجند: ماذا شربتم ؟! فقالوا : شاي يا معالي الباشا . . . فقال : شاي يا أولاد الكلب . . خذهم يا صفوت اسق كل واحد منهم زجاجة خمر، وأن يدخنوا الحشيش ، وأطعمهم كل ما يشتهون ، ثم ارم لهم بنت ال. . ولهم عندي إجازة ومكافأة . وأغلقوا الزنزانة وانصرفوا .
مكثت في الزنزانة حتى صلاة العصر . . آنت ساجدة في الصلاة عندما فتحت الزنزانة ويندفع صفوت وجذبني
من ذراعي في وحشية وقطع صلاتي، ثم أخذني إلى زنزانة المياه وأغلقها وانصرف !
وجاء رياض ودلف إلى الزنزانة، وكله علامة تعجب يحاول أن يخفيها تحت ظلال من الذهول وهو يقول :تريدين أن تكوني قديسة ؟ الجنود الذين أعددناهم لك ذهبوا إلى المستشفى. . لكنهم غدا سيأتون ينهشون لحمك نهشا، في المستشفى حقنوهم وأصبحوا كالكلاب المسعورة . . وأنها أوامر جمال عبد الناصر. . لن يتركك أبدا . (الله يحرقك يا عبد الناصر تعليق مني انا ). تعبنا من النصيحة وحاولنا معك مرة ومرات وأنت لا تتزحزحين عن موقفك . . تريدين أن تكوني قديسة ردى، ردى . . أين سوطك يا صفوت ؟" أخذ صفوت يضربني ورياض يستحثه : استمر يا صفوت . . قديسة يعنى إيه يا بنت ال . . ! ! تريدين بعد موتك بثلاثين سنة يقيمون لك ضريحا في مسجد ويقولون إن زينب الغزاليالجبيلي أظهرت كرامات في السجن الحربي. . لكن ، أنت هنا، ولا الشيطان يعرف ماذا نعمل فيك ؟!.وضحكت وأنا في قمة المعاناة كانت ضحكة سخرية من جهله وغروره ، وقلت : إذا كنا نريد ما تقول ، ما دفع الله شروركم عنا . ولما استطعنا المقاومة والصبر" والتغلب على ما تسموه ، بأنفسكم جحيم عبد الناصر.
لكننا طلاب حقيقة نطلب الله ، ثم رضاه . . سينصرنا الله عليكم إن شاء الله وسيفرى الله أسنان الأشقياء الذين
تعدونهم لنهش لحومنا .
السوط مع الرغيف ! !
بينما كانو ينقلوني لزنزانة اخرى سمعت جلبة خارج الزنزانة. زحفت على الأرض وبصعوبة بالغة أمسكت بالباب ونظرت من الفتحة . فرأيت جماعة من الإخوان ، يقفون طابورا طويلا، بيد كل واحد " قروانة " من الصفيح يتقدم بها إلى جندي، فيغرف هذا الأخير من " قزان " أمامه شيئا غريبا ويصبه في القروانة الصفيح . . وعندما يتناول الأخ نصيبه من هذا الطعام الغريب ، يتناول أيضا نصيبه من السياط ! !
كان عدد من الجنود الزبانية يقفون في صفين متقابلين ، وعندما يمر الأخ بعد أن يتناول نصيبه من الطعام ،
يضربه كل جندي عند مروره عليه بسوطه . . وهكذا لابد أن يدفع الأخ ضريبة إجبارية عددا من السياط بعدد
الجنود! وينصرف الأخ .شعر أحد الزبانية بي وأنا أختلس النظر إلى طابور تسليم الطعام الرهيب ، فدخل زنزانتي كالوحش الهائج
وأخذ يضربني بحذائه ضربا مؤلما، ثم ينهال بسوطه المجنون على ما يصادفه من جسمي، فخارت قواي، وغبت في نوم عميق على إسفلت الزنزانة! ! .
أيقظني الملعون صفوت ومعه أحد الجنود بيده قروانة بها قليل من الحساء أسود اللون ، تنبعث منه رائحة كريهة لا تطاق . . قال صفوت : اشربي هذا وإلا فسنضربك عشرة سياط . فقلت : سأشربها! ! فقال صفوت لمساعده : اتركها عشر دقائق ، ثم عد إليها . وانظر ماذا فعلت ؟ ، إن لم تكن قد شربت اضربها عشرة سياط وناديني . . ! ! ، . خرجا وأغلقا الباب ، ولما بعد وقع أقدامهما ، واطمأننت إلى أن أحدا لا ، يراني، سكبت الحساء تحت البطانية التي رموا بها على إسفلت الزنزانة . . وعاد الجندي بعد المدة المحددة فوجد القروانة فارغة فأخذها وانصرف ! ! قضيت ليلتي . . ويا لها من ليلة . . كنت على قمة الألم والمعاناة. . أنياب
آلام البدن تنهش جسمي كله . وافترشت آلامي وقضيت ليلتي . . ! !
مع شمس بدران
صرخ شمس: علقها يا صفوت واجلدها خمسمائة جلدة! ! . . وحشية ما بعدها وحشية؟ وقسوة غريبة لا يعرفها إلا شمس بدران ! ! .
وعلقوني وجهزوني للجلاد . . ! ! وشمر صفوت الروبي عن ساعده ، ورفع سوطه وأخذ في تنفيذ أمر مولاه شمس ! ! خمسمائة جلدة . . وأنا أستغيث ضارعة : "يا الله ، يا الله " وشمس بدران يقول : "أين هو الله؟!" الذي تنادينه ، فلينفعك إن كان موجوداً ! . . لو استغثت بعبد الناصر لأغاثك في الحال ! . . ثم أخذ بلسانه يتطاول على جلال الله سبحانه ، مما تأبى ألسنة المؤمنين أن تتفوه والتلفظ به ؟ ولو كان إعادة لما قاله الفاجرالكافر .
فقال شمس بدران في عصبية : أحضر الكلاب هنا يا صفوت ! !
أسرع صفوت وعاد ومساعده نجم بكلبين كالوحشين من مجموعة الكلاب المدربة التي كانت لي معها
سابقة في اليوم الأول من أيام "باستيل مصر" . . السجن الحربي . . وقال شمس بدران : أطلق عليها الكلاب
يا صفوت ! !
وهجم على الوحشان ، فأغمضت عيني . وأنا أقول : حسبي الله ونعم الوكيل ، اللهم اكفني السوء بما
شئت وكيف شئت . وظل الكلبان ينهشان جسمي كله بأنيابهما ويشعلان فيه نارا موقدة. . وشمس بدران لا يكف عن سبابه يا بنت ال. . اكتبي أنكم اتفقتم على قتل جمال عبد الناصر. . كيف كنتم ستقتلونه ؟ اكتبي . .اكتبي يا بنت ال . . !! . . وصار عدد الكلاب ثلاثة . . اثنان ينهشاني وشمس بدران يسلقني بلسانه القذرالسليط ! !
ويبدو أن شمس بدران قد شعر بأن لا جدوى من الكلاب فصرخ في صفوت ، وجسمه كله يهتز من الثورة: اصرف الكلاب يا صفوت ، وجهز بنت ال . . للجلد !
واستدعوا الطبيب ، فحضر ثم فحصني وقال لشمس بدران : إذا سمح الباشا يؤجل جلدها اليوم فحالتها
"لا تتحمل " .
وقال شمس بدران لحمزة البسيوني : "خذها إلى 24 أريد يا حمزة أن تحمل إلى جثتها .
وحملوني إلى رقم 24 . . بناء لم أدخله من قبل ، ثم أوقفوني فاقشعر بدني وتسمرت في مكاني! ! . . رقم 24 هذا زنزانة في وسطها نار موقدة، وعند كل ركن من الأركان الأربعة يقف جندي بيده سوط كلسان الأفعى. .وتناولني الجندي بسوطه وهو يأمرني بأن أدخل في دائرة النار، فإذا اقتربت منعني الجندي القريب منها، فيتلقاني الثالث . . وهكذا النار المشتعلة قريبة منى، يلفحني لهيبها.. ظللت ما يقرب من ساعتين وأنا بين لهيبين ، لهيب النار المشتعلة التي أخشى الوقوع فيها، ولهيب سياط الزبانية وكلا اللهيبين مر. ويدخل حمزة البسيوني، ونظرة بلهاء بلا معنى في عينيه ويقول وأنا في وسط هذا السعير: اكتبي أنكم ستقتلون جمال عبد الناصر وإلا قذفناك في النار ! ! .
ونظرت إليه نظرة ، وصرخت في وجهه صرخة بدون صوت ، وبكيت بدون دموع . . لقد كان العذاب فوق ما أحتمل ، وأغمى على ولم أفق إلا وأنا في المستشفى! !
انتظرونا في الجزء السابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق