الثلاثاء، 11 يناير 2011

أيّام في لندن .... د.احمد نوفل

1- المسلمون في بريطانيا:

عدت قبل يومين من كتابة هذه الكلمات من زيارة لبريطانيا استغرقت خمسة أيام.

وكل زيارة تحمل جديداً ويستفيد المرء منها خبرة جديدة ومزيداً من الفهم لواقع المسلمين هناك –ولا تستطيع أن تكّون صورة دقيقة ما لم تعاين وتعايش-:

فأولاً: أنت تعيش عالمية الإسلام، في تلك البقاع المفتوحة "المختلطة" "الكوزموبوليتانية". فلا تجلس في مكان فيه قومية واحدة أو قطر واحد. وإنما العالم العربي –على الأقل- أو الإسلامي على الأعم ممثل في تلك الجلسة. ولتأخذ صورة عن واقع الإسلام، فاعلم أن حركة عمران المساجد وإنشائها أو شراء كنائس وتحويلها إلى مساجد جار على قدم وساق.

وقد ألقيت درساً في مسجد الجالية البنغالية في شرق لندن، وهو أقدم وأضخم بناء مسجد في كل بريطانيا، وهو بناء من تسع طبقات يضم مساحات هائلة، وفيه مرافق كثيرة ألحقت به أوقاف ومحلات تجارية.. لينفق على المسجد واحتياجاته من ماء وكهرباء وتدفئة ونظافة وموظفين..الخ.

وقد زاره الأمير تشارلز وتكلم كلاماً طيباً، على عادته وموقفه المتسامح الجيد من الإسلام. وقد رأيت من نشاطات هذا المركز والدورات التي يعقدها، إن في التلاوة أو اللغة أو الحقوق القانونية للمسلمين.. الخ.

ورغم الصورة الطيبة التي تراها للمسلمين، فهي دون المطلوب. والمطلوب أعلى وأفضل وأكبر وأكثر ونستطيعه ببساطة دون تكلف. فلم التقصير دونه؟ ولم العجز عن التمام مع تمام القدرة عليه؟

فمن الصور الجيدة أن المساجد على كثرتها لا تتسع للمصلين ولا تستوعبهم، فقد يخطب في المسجد الواحد مرتين أو ثلاث مرات تباعاً، وكل ذلك والمسجد غاص بالمسلمين.. فقد خطبت الخطبة الأولى يوم الجمعة، وجاء إمام ليبي بعد نصف ساعة فصلى الصلاة الثانية، وفي مرات تصلى الثالثة.. وكل ذلك والمصلون يملأون حتى الممرات والدرجات التي يصعدون عليها، والمسجد عدة طبقات ولا تجد موطئ قدم.

ومن الصور الإيجابية كذلك أن التحدي يولد التمسك. فبعض من نعرفهم من الناس العاديين تحولوا إلى إيجابيين فعالين في المغترب، لأن تحدي الذوبان يوجب عليك التماسك والتمسك وإلا جرفك التيار. وقد قلت لهم: إن مثلكم في هذه الحضارة كمثل يونس عليه السلام، في بطن الحوت ولا يهضمه الحوت، وأنتم في قلب الحضارة ولا تنعزلون عن مجتمعكم، ولكنكم موصولون به فعالون ومع هذا تحافظون على قيمكم التي تمتاز عن قيم تلك الحضارة الغربية..

ولستم في هذا بدعاً فالسيخيون يحافظون على سيخيتهم والهندوس على هندوسيتهم والبوذيون على بوذيتهم واليهود على يهوديتهم، وكل ملة تحافظ على نفسها، فلماذا يراد للمسلمين من دون العالمين أن يذوبوا في الحضارة الغربية. وأنجيلا ميركل وهي صهيونية لا أكثر تزعم أن الحضارة الغربية تقوم على قيم اليهودية والمسيحية. وهي في هذا غير صائبة، فما نهضت الحضارة الغربية إلا بعد حسم موقفها من الكنيسة رفضاً وتحجيماً. وهي غير صادقة كذلك في شطب التراث الإسلامي الذي كان أحد أبرز عوامل نهوض الحضارة الغربية، حين كانت الأندلس مركز إشعاع لكل أوربا. وقلت لهم أي للمسلمين، كذلك، إن مثلكم مثل يوسف عليه السلام، فهو قد عاش بقيمه في وسط مجتمع منحل، وحافظ على نفسه ومبادئه، وحتى بعدما أساء المجتمع إليه، لم يفكر لحظة في الانتقام، بل على العكس فقد أخرج مصر من ورطتها، ووفر لها الطعام في سنوات قحط ومجاعة كان يمكن أن تعصف بالبلد فلا تبقي ولا تذر. فكان رحمة حتى على من ظلمه وأساء إليه. وصحيح أن بريطانيا استعمرت بلادنا، ولكنا حريصون على هدايتهم إلى الله وأن يدخلوا الإسلام والجنة.

وقد بلغني أن من يدخلون الإسلام كل سنة يزيدون على خمسة آلاف، بمعدل يبلغ (15) فرداً كل يوم. وقد لفت هذا نظر الإعلام فأجرى مقابلات واستبيانات مع كثير من المسلمين والمسلمات من الإنجليز، وكانت الغرابة من المسلمات أكثر، فالثقافة السائدة عن الإسلام ثم أنه يميز ضد المرأة، وحاشا، بالطبع، لكن هذا السائد، فكيف تسلمن؟ والغريب أن الجواب هو: أحوال المرأة في العالم العربي وحضارة الغرب هي السبب في دخولهن الإسلام.

2- المسلمون والعمل السياسي والعام:

يأتي المسلمون بريطانيا أو غيرها مسكونين بعقد الخوف والكبت، فيشلهم ذلك المخزون السلبي عن الحراك السياسي والاجتماعي والحزبي والإعلامي. ولا يستغلون مناخات الحرية عالية السقف السائدة في بريطانيا. ويحجمون عن المشاركة بتعلات وذرائع واهية. لكنهم رغم التحفظات اقتحموا هذه العقبة وحققوا نجاحاً مذهلاً. ونسقوا مع الأحزاب اليسارية وكتب الإعلام مستغرباً عن التنسيق الغريب بين الأحمر والأخضر. يقصدون بين الإسلام واليسار البريطاني. وقد قال لي أخ من المنخرطين في هذا العمل: بدأنا بالتنسيق في موضوع الحرب على العراق، فلما طرح الموضوع الفلسطيني أحجم اليسار يقول الأخ ولكنهم الآن يسبقوننا ويتقدمون علينا في هذا الموضوع. يقول طرحنا شعار Palestine, for ever, from the sea to the river فوجدنا بعض التحفظ، ولكنهم الآن يرفعونه أكثر منا. وقد كتب الإعلام الصهيوني عن هذه الظاهرة، وأن نزع الشرعية عن "إسرائيل" بدأ في بريطانيا، وأن هذا خطير على دولة العدوان الإسرائيلية..

وهل تعلم أن كثيرين من قادة "إسرائيل" العسكريين لا يستطيعون زيارة بريطانيا لأن دعاوى قضائية مرفوعة ضدهم؟


أقصد إلى القول: لقد حقق المسلمون بهذا العمل البسيط إنجازاً فاق المتوقع، فالإقدام مطلوب. ونبذ مخزوننا من المخاوف المستصحبة معنا من عالمنا العربي المأزوم المهزوم المهزوز المسكون بالرعب، فلندع هذا وراءنا.

ومما قلت لهم: إياكم والفتاوى الشيطانية الصبيانية التي تزعم بأن أموال المجتمع الكافر حلال. فنهب بريطانيا والتهرب من دفع ما عليك لها ليس مباحاً فقط وإنما يمكن أن يرقى إلى الواجب. بل إن بعض المتشنجين كان يفتي بأن طاعة القانون البريطاني حتى لو كان في حزام الأمان طاعة لقوانين الكفر، وقد قال أحد عباقرة التشنج في مقابلة إعلامية عدمية عبثية، وكان الإعلام لا يغيب وجه هذا "الشيخ" عن شاشاته وصفحاته.. قال في جواب عن سؤال: لماذا تعيشون في بريطانيا وتعملون ضدها؟ قال: بريطانيا بالنسبة لنا "كالدورة" تدخلها للضرورة! وهذا كلام تافه ساقط غير لائق ولا كريم. وهل يقول المسلمون الأصحاب الذين هاجروا إلى الحبشة فآوتهم مثل هذا القول؟! هذه وأضرابها سميتها في أحاديثي لهم في مدنهم سميتها: الفتاوى الشيطانية. وأعتقد أنها تسمية حقة لأنها تصد عن سبيل الله، وتنفر الناس من الدخول في دين الله. وينسى هؤلاء المغفلون أن مصايد المغفلين تتربص بمثل هذه الكلمات وتنشرها حتى يقرأها من لم يكن اطلع عليها..

وهل تعلم، وأنت بالقطع تعلم، أن القوافل الشريانية من بريطانيا كان انطلاقها المتوالي بعد القافلة الأولى المنطلقة من اليونان؟

وأن أضخم المظاهرات المناهضة للحرب على العراق كانت من بريطانيا؟ فماذا كانت المكافأة؟ تدمير قطار الأنفاق! أرأيت صفقة أخسر من صفقتنا؟ أو اختراقاً أسوأ من الاختراق الذي ينخر تجمعاتنا ومجتمعاتنا؟

ما رأيته كان مدهشاً. ولذلك قلت لهم: لن نغيب عنكم في رمضان أبداً وإني متبرع بعد رمضان إن كتبت لنا أيام بشهر من الزمن لكل مدينة يوم.. وما سماع كمعاينة.

كل زيارة تتأكد لي حقيقة أن العاقبة لهذا الدين بالرحمة والقوة الناعمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق