الأحد، 23 يناير 2011

من عتبات السجن يكتب : آيات الله فى تونس


أندلسي_مصر
 
آيات الله فى تونس: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا.. فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا)

أيها التوانسة احذروا سرقة الثورة!
(مجدى أحمد حسين)
درجت على أن أصلى بالسور والآيات الكريمة التى أحفظها وحفظتها فى هذا الكهف، بالترتيب على أساس ورودها فى القرآن الكريم، حتى أستمتع بالآيات بشكل متساوى، وحتى أثبت حفظى لها، خاصة تلك التى حفظتها فى سن كبير فى هذا الكهف، وعندما اندلعت ثورة تونس, بل فى لحظتها الفارقة حيث هرب الطاغية بطائرته فى تيه السماء الدنيا، ولا يدرى أين يحط بها، وقد صد عنه أربابه فى الغرب، فى هذه اللحظات كنت قد وصلت إلى سورة المرسلات التى تبدأ هكذا: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا . فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا . وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا . فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا . فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا . عُذْرًا أَوْ نُذْرًا . إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ), فهل يوجد وصف أجل وأجمل من ذلك لتلك اللحظات الخالدة؟!

وعلى خلاف فى التفاسير تبقى معانى هذه الآيات شاملة لها جميعا، ومن أجمل هذه التفاسير من قال إن هذه هى الآيات المرسلة من الله (والآيات فى القرآن وفى الواقع) لتهدى إلى العرف وهو الخير وهذه الآيات تعصف بالباطل عصفا، وتنشر الحكمة والهداية، وتفرق بين الحق والباطل وتذكر الناس بما ينفعهم اغرارا لهم وإنذارا فلا تكون لهم حجة.

وكل ما سبق هو قسم من الله عز وجل بكل هذه المعانى بأن القيامة حق, ولكل إنسان قيامته الخاصة (يوم وفاته), ولكل نظام طاغوتى قيامته الخاصة (يوم سقوطه)، ونحن نرى لمحات وشذرات بسيطة من يوم القيامة الذى وصفه الله عز وجل: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس: 34-37).

فقد هرب طاغية تونس وترك بعض أطراف أسرته وأصهاره وأنصاره وأتباعه لمصيرهم، فقد كان عليه أن يهرب بجسده، وحتى أمواله إذا كان قد وضعها فى سويسرا فربما ضاعت ولن يستفيد منها، أما زوجته فلم تنتظره وسبقته وحملت معها طن ونصف طن ذهب وهى تدرك احتمال ضياع الأموال التى وضعتها فى الخارج، لكل امرؤ منهم شأن يغنيه. وستظل الأسرة الحاكمة المخلوعة لا تشعر بالراحة والأمان, وستظل الناس فى تونس وخارجها يستمطرون عليهم اللعنات، ولن يتذوقوا طعم الأكل السعودى الذى سيقدم لهم، ولن يستمتعوا بالبيت الملكى الذى يأوون إليه, وسيكون بالنسبة لهم جحر للفئران. هذا هو عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة: 21).

ليست هذه هى الآية الوحيدة التى تحدثت عن عذاب الدنيا للطغاة، ولقد كتبت كثيرا فى هذا المعنى، لعلهم يرهبون، لأن هؤلاء لا يحسبون حساب الآخرة فكان لابد من تخويفهم بعذاب الدنيا وهو معروف ومرئى فى عالم الشهادة، كأحوال شاه إيران وأسرته بعد الإطاحة بهم، وأحوال الملك فاروق وغيرهما كثير، ولكنهم لا يرعوا أبدا!!

فى عام 1994 كتبت (وتحول ما كتبته لوثيقة لحزب العمل) كتيب (فقه التغيير السياسى فى الإسلام)، وقلت إن نماذج التغيير النظرية أربعة:

1- الكفاح المسلح.

2- الانتخابات.

3- الانقلاب العسكرى.

4- العصيان المدنى.

وقلنا إننا ننحاز إلى نموذج العصيان المدنى باعتباره الخيار الرئيسى السليم والممكن والشرعى (إسلاميا)، والمناسب لأحوال البلاد العربية. ويمكن العودة لحيثيات ذلك، ونحن لم نرفض الانتخابات وهو أسلوب حضارى ومثالى، ولكن قلنا إن الطغاة لا يتركون مقاعدهم بالانتخابات، ولا يسمحون بها أصلا، أى الانتخابات الحرة النزيهة الحقيقية.

ونحن لم نكن واهمين فى هذا الاختيار، بمعنى أننا لم نقل أنه سهل، ويمكن أن يحدث كل يوم، أو بقرار من حزب ما أو زعيم ما مهما بلغ شأوهما، فالثورات كظواهر الطبيعة الكبرى لا تحدث إلا بصورة موسمية، كما أنها لا تأتيكم إلا بغتة (كيوم القيامة).

وأى متابع للشئون العربية كان يتوقع أن تحدث ثورة فى أى بلد إلا تونس، فهى فى آخر التوقعات، فهى أكثر البلاد استقرارا على السطح، بلا معارضة حقيقية، بل يتعذر التنفس هناك بصورة طبيعية. ولعل الأرقام المزيفة التى روجتها مؤسسات الغرب عن النهضة الاقتصادية التونسية ساهمت فى هذا الإحساس، ولعلها صحيحة، ولكن كل مكاسبها كانت لأسرة واحدة وحولها مجموعة محدودة من الأسر المحيطة بها!! (يقال 6 أسر!) .

وعلى خلاف الآراء المتحذلقة التى تدعى العمق، نحن نؤمن بنظرية المؤامرة, فالمؤامرات أحد السنن الاجتماعية (شرح ذلك يحتاج لمقال خاص), ولكنها تتعلق بالأعمال الصغيرة، كعملية اغتيال أو تجسس أو إثارة فتنة: (إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) (القصص: 20), أو انقلاب عسكرى أو تدابير سرية لخدمة سياسة خارجية ما. ولكن الثورات الشعبية من الأعمال الكبرى التى تتجاوز التدابير والإعداد (والتآمر إن شئت) حتى إن وجدت النقابات والتنظيمات المعارضة الكبرى سرا أو علنا.

أما دور المعارضة المخلصة والرشيدة، فهى مجرد التبشير بها، والقول بأنها حق، وأنها - فى ظل نظام استبدادى طاغوتى - قادمة لا محالة. فهى دعوة لعدم اليأس، ولعدم الركون للظالمين. فهذه مسألة بديهية، وإن كانت الشعوب تهزم عندما تفقد الإيمان بالبديهيات، فيتعين التذكير بها. ولكن الدور الأساسى للمصلحين ليس فى ذلك، ولكن فى التبشير بالبديل، الذى سيحل يوما ما محل نظام الظلم والاستبداد والتبعية، وأن تنشر هذه الرؤية أو المشروع بين أكبر قطاع ممكن من الجماهير، فرغم الصعوبة الكبرى فى إسقاط نظام ما يظل هذا هو الجانب الأسهل (الهدم)، أما المشكلة الأكبر فهى فى البناء.

ولكن لا يعنى ذلك أن تتحول الحركات الإصلاحية إلى مراكز للبحوث والدراسات، فلابد من التوازن بين القول والعمل، وبين الإعداد للهدم والإعداد للبناء. ولابد من مقاومة الظلم طوال الوقت، ولابد من تقصير آلام الناس، وتقصير أعمار النظم الفاسدة. هذه المقاومة لا تعنى العصيان المدنى الفورى, فهذا الأخير يتصل بالحالة الشعورية للناس، وهل وصلت إلى الحلقوم أم ليس بعد؟! وهذا يجب ألا يقلقنا، فإذا تعذر المطر هذا العام فسيأتى فى العام القادم أو الذى بعده وهكذا، ولكن نشر ثقافة مقاومة الظلم لا شك يقرب من يوم الخلاص، فلم يكن من المحتم أن تعيش تونس تحت قبضة الديكتاتورية والتبعية لمدة نصف قرن!

إن درس تونس يقول:

1- إن العصيان المدنى نموذج قابل للتشغيل!! بمعنى أنه لا يزال صالحا للعمل بعد أن يأس الناس من حدوثه، ولكنه حدث كثيرا عبر التاريخ بما لا يمكن حصره الآن.. ولكن فى التاريخ القريب حدثت انتفاضتان فى السودان (1964-1985) ونجحتا فى الإطاحة بالطغيان، وكذلك تابعنا يوما بيوم وقائع الثورة الإيرانية التى أطاحت بالشاه (1978-1979) ورأينا انتفاضة مسروقة (أى سرقت فى اللحظة الأخيرة) فى موريتانيا منذ عدة أعوام. ونرى انتفاضة شعبية متواصلة فى جنوب اليمن وإن كنا نتمنى أن تسعى لاستمرار الوحدة مع الإطاحة بالنظام الفاسد.

إن درس تونس يقول:

2- إن الشعب يمكن أن يقوم وحده بالانتفاضة بدون أى قيادة سياسية معارضة منظمة، وفى ظل أعتى النظم الاستبدادية، وهذا الجانب هو الذى أزعج الحكام العرب الذين كانوا ينامون ملىء الجفون بعد أن سووا المعارضة بالأرض، أو جعلوها ديكورية أو مسلوبة الإرادة، أو تعمل فى الأطر المحددة لها سلفا.. كما تسمح الأسرة للطفل باللعب فى غرفة محددة أو ركن محدد أو الرصيف على باب البيت، مع تحريم اللعب والتسلية خارج هذه المربعات!!

استيقظ الحكام على نوع مرعب من الثورات، استيقظوا على عفريت من الجان، وهذا ما لم يعملوا له أى حساب، ولم يدخل فى خططهم الأمنية، وأنَا له أن يدخل، فالمعارضة "ديتها" معروفة: سجون - معتقلات - تعذيب - إغلاق صحف وأحزاب - مطاردة وضرب فى الشوارع - شراء ذمم وأعطيات وامتيازات مادية ومعنوية. كما ابتكرت قريحة الأجهزة الأمنية للحكام العرب من الابتكارات ما يجب أن يحظى بالتقدير والتثمين، وهو صناعة المعارضة, وهى فكرة لم تخطر على بال أبى لهب وأبى جهل، ولم تخطر على بال كثير من الطغاة فى الشرق والغرب، لأن تأليه الحاكم لا يسمح بهذه اللعبة. ولكن أجهزة الأنظمة العربية أنشأت مصانع وورش لإنتاج أحزاب ومنظمات وشخصيات وصحف وقنوات معارضة، على طريقة المبانى سابقة التجهيز، كما تحقق ذلك من خلال تدجين وتحويل واستئناس فصائل المعارضة بحيث تصبح مفاتيح إدارتها (كلوحة مفاتيح الكهرباء) تدار من وزاره الداخلية. وأصبح التجسس على الأحزاب المعارضة موضة قديمة ومتخلفة، فتم الانتقال إلى تجنيد أحزاب بأكملها، بدءا من رئيس الحزب إلى أى قدر متيسر من القيادة والقواعد والأنصار!! ثم يظهر هؤلاء فى التلفزيون الرسمى ليقول النظام: ماذا نفعل أكثر من ذلك؟! قيادات المعارضة تتحدث كل يوم فى التلفاز!! وهكذا تم الجمع بين الأحزاب سابقة التجهيز، والأحزاب التى أعيد تأهيلها لتعمل فى إطار النظام، والعمل فى إطار النظام لا غبار عليه إذا كان المقصود بالنظام: الدستور والقانون والمصالح العليا للوطن والتى هى محددة أيضا فى الدستور وليس على مزاج الحاكم، ولكن العمل فى إطار النظام أصبح يعنى العمل تحت إمرة الأجهزة الأمنية!! والتبعية الهرمية الدقيقة لضباط الأمن السياسى، بحيث يصبح الضابط الفلانى مسئولا عن الحزب العلانى!! بل وصل الأمر إلى أن أصبح ذلك معلنا ومعروفا وليس سرا!!

وبالتالى وجدنا فى كل البلاد العربية التى تزعم التعددية والتى تباركها أمريكا، يتم تفريخ عشرات الأحزاب (وصلت فى الجزائر إلى أكثر من 80 حزبا)، ولم تكن هذه الوفرة من الأحزاب تعبيرا عن الثراء والحيوية الشعبية، ولكن كانت تعبيرا عن الحيوية الأمنية!! ووصل الأمر إلى أن أحزاب بأكملها كل عضويتها من المخبرين!! وغالبا فإن هذه الأحزاب هى المؤهلة وحدها لتقديم مرشح معارض لرئاسة الجمهورية!!

إذن لقد تم ترتيب الخريطة السياسية بشكل محكم وهم - أى الحكام - فى الغرفات هم آمنون (غرفات القصور، لا غرفات الجنة)!

أما ما حدث فى تونس فقد دمر عمل السنين، فبعد عشرات من السنين من هذه التصميمات التى تم تنفيذها على أرض الواقع، يأتى الشعب التونسى ليخرب المعادلة من أساسها. ولو كنت - معاذ الله - من هؤلاء الحكام لطار برج من نفوخى!! وأحسب أن هذا هو حالهم من الآن! فقد أصبحوا أمام عفريت من الجان (الشعب) بدون سلاح وبدون تنظيم وبدون إعلام منظم (نشطاء الثورة استخدموا الإنترنت رغم الحجب الواسع للمواقع), بل بدون قيادة واضحة ومركزية. وكما أن للجان عالمه الخاص وتحكمه قوانين خاصة غير تلك التى تحكمنا، فقد برهن الشعب التونسى أنه يمكن التحرك بقوانين خاصة خارج القوانين الأمنية والاستبدادية، فلم يعد 1+1 = 2!! لم تعد: العصا+ تكميم الأفواه =استقرار الحكم!

بلقيس عجزت أمام قوانين سيدنا سليمان فأسلمت! فلماذا لا يسلم الحكام العرب قبل فوات الأوان؟! ولكنهم لا تبدو عليهم بوادر ذلك، فبلقيس أسلمت فورا عندما رأت الآيات، وكذلك أسلم سحرة فرعون فورا لما رأوا الآيات, ولكن هؤلاء ينوون التملص والخداع، فيقولون إن بلادنا ليست تونسا! ولكنهم غيروا برنامج مؤتمرهم الاقتصادى فى شرم الشيخ وجعلوا البطالة هى موضوعه الرئيسى!!

ألم تشعروا بالبطالة إلا بعد (بو عزيزى) يا حكام الإفك، وهل هذا ما فهمتموه من انتفاضة تونس. ألم تفهموه من كل ما جرى فى تونس إلا أن هناك مشكلة (بطالة).. لو كنتم فهمتم الدرس لقلتم مع بلقيس: (رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل: 44)، ليست المشكلة فى وجود معضلة فنية اقتصادية اسمها البطالة, فليس هذا إلا مظهرا واحدا لظلمكم, وحتى مشكلة البطالة لن تحل إلا إذا توقف نهب الأسر الحاكمة، وأن تسحبوا أولادكم من البورصات، وتردوا الأموال للشعب، وتتخلوا عن قصوركم وأبهتكم، وتخرجوا الجيوش الأجنبية من أرضكم، وتمنعوا الأجنبى من التحكم فى قراراتكم، وأن تنزعوا صوركم التى أغرقتم بها المدينة، وأن تحطموا تماثيلكم، وأن تكفوا عن اعتبار أن تلقيكم مكالمة هاتفية أو برقية تهنئة هى أهم خبر فى العالم، وأن تعلنوا أنكم بشر ولستم آلهة، وأن تعلنوا أنكم لن تحكموا البلاد إلى الأبد, وأن نظام التوريث الملكى والجمهورى باطل، وأن تعلنوا الشورى منهجا للحكم, وأن تكفوا عن إراقة أموال الشعب على موائد القمار, وعلى الساقطات. أو تغادروا لفرنسا أو أسبانيا أو سويسرا حيث لكم قصور هناك، وحيث يمكن الاستقرار هناك الآن بسهولة، ولكن بعد ذلك لن يقبلوا بكم، وقبل أن يأتى يوم لا تجدون عاصمة واحدة تستقبلكم كما وجد زين العابدين عاصمة لا تخجل من استقباله!! ولكن خطتكم هى المراوغة والخداع عسى الناس أن تنسى ما حدث فى تونس. ولكن الجائع لن ينسى جوعه، والمظلوم لن ينسى مظلوميته, ومن نزعتوا آدميته لن ينسى أن آدميته مفقودة .

الآن يهرع حكام الجزائر للتحقيق فى وقائع المنتحرين الجزائريين, ووصل الأمر إلى حد عزل رئيس المجلس المحلى الذى تسبب فى انتحار مواطن بينما هرع نظيف رئيس الوزراء ومعه مجلس الشورى ومجلس الشعب للاهتمام بالمواطن الذى أشعل النار فى نفسه أمام المؤسسات الثلاثة! بينما لم يهتموا من قبل بمحاولة انتحار 104 ألف مصرى خلال العام 2009 (حسب الجهاز المركزى للإحصاء). أما هذا الأخير فهو بالمناسبة ليس عاطلا عن العمل بل صاحب مطعم تعرض للظلم فى محاولة الحصول على حصته من الخبز. فالموضوع إذا لا ينحصر فى البطالة, بل فى مظالم لا أول لها ولا آخر. (فهل ستناقش قمة شرم الشيخ مشكلات أصحاب المطاعم الصغيرة؟!) ولكن الحكام أصبحوا يتصرفون بالفعل كالخائف من العفريت، فأنت لا ترى العفريت ولا تعرف من أى جانب سيأتى، ولا تستطيع قتله أو الهرب منه! فهم يتصورون الآن أن المشكلة فى البطالة، فظهرت لهم مشكلة أصحاب المطاعم الصغيرة. وهم يظنون أن المشكلة فى محاولة الانتحار، مع أن انتحار بوعزيزى كان مجرد الشرارة. وقد تأتى الشرارة من موضوع آخر أو مناسبة أخرى: فالأصل فى حكاية بوعزيزى أنه تعرض للصفع على الوجه وهذا يحدث كل دقيقة فى مصر!! كما صودرت منه الخضروات التى يبيعها وهذا ما تقوم به البلدية كل يوم فى مصر! وأقول للحكام لا تخشوا من الانتحار، ولا من البطالة، ولا ترتعبوا كلما شنق مصرى نفسه كما نقرأ كل يوم فى الصحف بسبب ضيق العيش، وإلا لكان فى مصر 104 ألف ثورة عام 2009 وهو عدد محاولات الانتحار. ولكن فى المقابل فإن العفريت قد يكون فى شىء آخر تماما: فى أسعار المكرونة، أو حادث قطار فى الصعيد، أو مواطن جديد يقتل داخل قسم, أو الانهيار الوشيك لصناعة النسيج، فليست أى واقعة من هذه صَغُرت أو كبرت هى التى تصنع فى حد ذاتها الثورة, ولكن الثورة تقوم عندما تصل الأمور إلى الحلقوم، وعندما تصل مشاعر الغليان لدى الشعب إلى 100%, وهى فى معظم البلاد العربية تجاوزت 50% بكثير, واقتربت هنا وهناك إلى 70 أو 80%, نحن لا نعظكم فجلودكم سميكة، ولكننا نحلل الأوضاع كما هى.

*****

ودرس تونس يقول:

3- إن أمريكا وإسرائيل وأوروبا لن ينفعوا الحكام إذا حُم القضاء، وإنهم على قدر كبير جدا من النذالة، وأن ما يهمهم أن يتم التغيير بدون فقدان لمصالحهم، ولكن العملاء الأوفياء والملتزمين فلا لزوم لهم بعد انتهاء عمرهم الافتراضى، ولو كانوا أصحاب مبادىء من أى نوع لاستضافوا شاه إيران وبن على وغيرهما، ولكنهم قساة القلب ويحتقرون عملائهم ولا يقيمون لهم وزنا، وهذا الدرس ليس جديدا, ولا توجد أى مفاجأة فيه.. ولكننا نؤكد أنهم كانوا يشيدون بحكم بن على، وصمتوا طوال أسابيع الثورة الأخيرة على أمل النجاح فى وأدها, ولكنهم فى الأيام الأخيرة وقبيل هروب بن على بساعات بدأوا يبدون احترامهم لإرادة الشعب التونسى!! ونحن لا نحذر الحكام العرب من الغرب فلا فائدة من ذلك، ولكننا ننتهز هذه الفرصة لنؤكد أن أمريكا وإسرائيل (صديقة بن على) وأوروبا لا تريد ديمقراطية فى البلاد العربية، وهم لا يحملون لنا أى أمنيات طيبة، ولا يدينون الحكام العرب إلا بعد موتهم أو سقوطهم.

*****

معضلة تونس الآن:

لكل الأسباب السابقة فإن كل قوى الشر العالمية والعربية ستعمل على إفراغ الثورة من مضمونها فى تونس أولا للحفاظ على المصالح الغربية، والاحتفاظ بتونس ضمن المنظومة العربية والغربية الفاسدة، وثانيا لتبديد آثار وتداعيات العدوى فى المنطقة العربية.

ولكن بداية نؤكد أنه مهما حدث وحتى فى أسوأ السيناريوهات بؤسا، أى أن يبقى نظام بن على بدون بن على، فإن المثال التونسى سيظل له تأثيره الجامح: إن التغيير الشعبى ممكن، ومعاقبة الحاكم المستبد ممكنة وأن الطغمة الحاكمة عوقبت بالفعل وطردت من الحكم. وكل آثار المثال التونسى لا يمكن أن يمحوها أحد.

ولكن خطة أمريكا وحكام العرب ستكون كما ذكرنا الاحتفاظ بالتوجهات الأساسية خاصة الخارجية لنظام بن على بدون بن على.

ولكن فى المقابل يتعين على الشعب التونسى أن يواصل جهاده حتى لا تستمر بعض أركان النظام فى إعادة ترميم النظام من جديد. فالدستور الحالى لا يسمح بترشيح أحد لرئاسة الجمهورية إلا إذا كان من أركان النظام السابق (على نفس طريقة المادة 76 المصرية)، ورئيس الوزراء الحالى هو نفسه من خدم بن على، وكذلك فإن تشكيل ما يسمى حكومة الوحدة الوطنية لا يبشر بالخير، والاحتفاظ بالحزب الحاكم المجرم (لاحظوا ماذا فعلت ميليشيات بن على فى مدن تونس بعد رحيله) كل ذلك يؤكد ملامح الخطة المزمعة، كذلك التلميع الإعلامى لقائد القوات البرية رشيد بن عمار, لذلك يجب على الشعب التونسى أن ينتقل سريعا من العفوية إلى التنظيم، لابد من تشكيلات وأحزاب ومنظمات جديدة يتزعمها القادة الجدد والشبان الذين ظهروا خلال الشهر الماضى (شهر الثورة), ولابد من التحام هؤلاء مع البقايا المخلصة للأحزاب التونسية التى كانت محظورة، ولابد من عودة جميع السياسيين المهاجرين لأن البلاد تحتاج لقادة شعبين ذوى مصداقية.

ولابد من إعادة لملمة وترميم حزب النهضة الإسلامى وعودة المهاجرين إلى تونس. وهذه دعوة لكل الأحزاب الأخرى التى كانت محظورة للنزول للساحة بقوة. فنحن فى لحظة - مع الفارق - شبيهة بلحظة انتقال السلطة من بورقيبة لبن على، والتى ترافقت مع انتفاضة شعبية، ثم سرق بن على الانتفاضة بعد فترة من المراوغة، ويصعب تخيل تكرار ذلك بعد كل ما حدث فى تونس هذا الشهر، فما حدث خلال شهر هو مدرسة تعليمية لجميع التونسيين هم خلقوا الأحداث ولكن أيضا تعلموا منها. وهو أصلا شعب ذكى ومثقف، ومع ذلك فالحذر واجب, بل الخطة المضادة (ترميم النظام) بدأ العمل فيها بالفعل، بل لعل حالة التخريب والفوضى التى أحدثتها ميلشيات بن على كانت مقصودة ليس لإطفاء زهوة الانتفاضة، ومحاولة يائسة لإعادة بن على فحسب, بل لإرجاع الشعب التونسى للمنازل، بحيث يصبح الجيش هو اللاعب الحقيقى فى الساحة، والحاكم الأوحد للبلاد. وسواء كانت مقصودة أو غير مقصودة فهذا هو الذى حدث بالفعل، فقيام الجيش بتصفية الحرس الخاص للرئاسة يجعله هو الذى قام بالخطوة الأخيرة للثورة، فتصبح الكلمة الأولى والأخيرة له. مع ملاحظة أن الجيش التونسى ليس كالجيش المصرى مثلا، فالأخير خاض حروبا ومعارك ضد إسرائيل, أما الجيش التونسى فليس له - بحكم الجغرافيا - أى دور سابق فى أى حروب وطنية أو عروبية ولا نعرف مدى تغلغل الأمريكان والفرنسيين داخله, بل نحسب أن الاختراق كبير. وبالمناسبة لم تذكر التقارير عن سخائم بن على أهم شىء، وهو أنه كان عميلا صريحا للمخابرات المركزية الأمريكية، وقد اكتشف السوفيت ذلك عندما كان سفيرا لتونس فى بولندا فى زمن الشيوعية. وقد عمل بن على طويلا فى المناصب العليا لنظام بورقيبة، وما كان لأحد أن يأمن له بسبب هذا التاريخ الأسود. لذلك نحن لا نميل - بالتحليل - إلى حسن الظن بقائد القوات البرية لأن بن على هو الذى عينه رئيسا لأركان الجيش.

نحن الآن من المفترض أن نكون فى موقع المتلقى والمتعلم من الشعب التونسى, ونحن كذلك, ولكن من واجبنا أن نشارك بالنصيحة المخلصة عن بعد. بل ما نقوله هنا يقوله العديد من رموز النخبة النظيفة فى تونس, ونحن نعلن تأييدنا لهذا التوجه, ولكنه لا ينجح بدون التنظيم ثم التنظيم ثم التنظيم أى تأطير فاعليات وثمار الانتفاضة (نعنى الثمار البشرية) وبعد إخلاء الشارع والاستكانة إلى الراحة بعد شهر عصيب، فإذا لم تصف بقايا النظام البائد الآن فمتى ستصفى؟!

(أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ . ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ . كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِين) (المرسلات: 16-18).

ملاحظات إضافية:

الأحداث فى تونس سريعة فبعد كتابة المقالات حدث ما يلى:

- تزايدت الشكوك حول مسعى قيادة الجيش - بالتفاهم مع أمريكا - للاستيلاء على السلطة، وأن الجنرال رشيد بن عمار رئيس أركان الجيش وقائد القوات البرية يتم تلميعه ليكون هو رئيس الجمهورية المقبل، بل إن رئيس الوزراء (من أتباع بن على) يؤكد أن الجيش شريك أساسى فى الثورة تمهيدا لذلك. كما أن بن عمار هو الذى طلب من بن على الرحيل، ويبدو أن ذلك بالاتفاق مع الأمريكان.

- اندلعت المظاهرات الحاشدة من جديد ترفض حكومة الوحدة الوطنية المزعومة، وقام الجيش بتفريقها بالقوة!! (الحكومة أغلبها من حزب بن على) ها هو الجيش يقمع المظاهرات!!

- أدت هذه الموجة الجديدة من المظاهرات فى العاصمة والتى بلغت 100 ألف متظاهر وعدة مدن إلى استقالة 4 وزراء وهم من المعارضة. وهذه التطورات تؤكد ما جاء فى التحليل السابق، فمؤامرة سرقة الثورة مستمرة، ولكن أيضا - كما توقعنا - فإن الشعب التونسى متيقظ وثورته أيضا ما تزال مستمرة، ونسأل الله التوفيق للشعب الشقيق حتى يستكمل ثورته للنهاية وينتصر على بقايا النظام كما انتصر على رأس النظام.

- ومن وسائل خداع الجماهير ومحاولة احتوائها، قيام رئيس البرلمان (الرئيس المؤقت) ورئيس الوزراء بالاستقالة من الحزب الحاكم، وكأنهما بذلك لم يعودا من زمره بن على! وكذلك الحديث عن محاكمة أسرة زوجة بن على أو ما تبقى منهم فى تونس، ولكن من يحاكم من؟ أليس هؤلاء كانوا شركاء أو أحد أتباع لهم؟ ألا يدين الاثنين قول رئيس الوزراء أن زوجة بن على كانت هى التى تحكمهم. هذه المحاكمة إن جرت فلا أهمية لها فى ظل هروب رؤوس الفتنة، والأهم من ذلك تصفية ما تبقى من أركان العصابة الحاكمة. لابد من تطهير الجرح من الصديد لا غلقه على الصديد فيستمر المرض! ثم المهم بعد ذلك استعادة الأموال المهربة من الخارج. أما المحاكمة فقد حاكم الشعب بن على فى أعظم محاكمة تاريخية (الانتفاضة).

- من فضائح الغرب أن الكونجرس الأمريكى كان يناقش - قبل سقوط بن على بساعات - اعتماد 12 مليون دولار لدعم الأمن التونسى، وكانت وزير الخارجية الفرنسية تطلب من مجلس الوزراء الفرنسى الموافقة على إرسال قوات أمن فرنسية لدعم بن على، ولكن الوقت لم يسعفهم! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق