سلطة عباس - فياض: قصة نجاح صهيونية
بقلم: ياسين عز الدين
تقف المصالحة بين حركتي فتح وحماس عند عقبة كأداء ألا وهي الملف الأمني، وفي حين تنازل الطرفين في كافة الملفات ووصلوا إلى نقاط التقاء، إلا أنه وعندما يتعلق الأمر بالأجهزة الأمنية فلدى حركة فتح خطوط حمراء، وهي لا تتعلق بترتيبات الوضع الداخلي الفلسطيني، بل تتعلق بما يسمى "التزامات السلطة"، التزامات اتفاقية أوسلو والتزامات خارطة الطريق.
ومن المفارقات أنه في الوقت الذي تتمسك السلطة بأوسلو وخارطة الطريق، وتطبقهما بحذافيرهما، وتعرض المصالحة للخطر الداهم بسبب إصرارها على التمسك بالتزاماتها، فإنها لا تطالب الصهاينة بالالتزام بما عليهم (باستثناء كلام اعلامي لا رصيد له)، بل توافق ضمنياً على خروقات الصهاينة لاتفاقية أوسلو والتزامات خارطة الطريق.
فعلى سبيل المثال تنص خارطة الطريق على وقف الصهاينة للاستيطان مقابل محاربة السلطة للـ "إرهاب"، لكن ما نراه اليوم أن تجميد الاستيطان (وليس وقفه) هو مادة للتفاوض، والصهاينة يريدون مقابل له (مع أنه حسب خارطة الطريق فقد أخذوا المقابل منذ زمن).
أما إتفاقية أوسلو فهي اتفاقية مؤقتة كان يجب أن تحل مكانها اتفاقية "دائمة" عام 1999م، لكنها ما زالت لليوم شماعة تعلق عليها السلطة كل ما تريد تمريره من تنازلات، مع التغاضي عن خروق الاحتلال للإتفاقية، فمثلاً الترتيبات الأمنية حسب أوسلو تتضمن عدم دخول الصهاينة للمناطق أ إلا ضمن دوريات مشتركة تسير في شوارع محددة أو من خلال "المطاردة الساخنة" لمقاومين، لكن عندما استعادت السلطة "سيطرتها" على مناطق (أ) وافقت على شرط الاحتلال بسحب قواتها ليلاً لكي تمكن لقوات الاحتلال دخول المدن متى شاءت.
فما الذي دفع السلطة للقبول بهذا الواقع؟ لماذا تقبل بتخريب المصالحة من أجل اتفاقيات تلتزم بها من جانب واحد، ودون "أي مقابل"، هل ما نراه وضع طبيعي؟ هل هو امتداد لسلطة أوسلو التي أسسها ياسر عرفات؟ وأين هي مناورات عرفات المعهودة عندما كان يصعد الوضع على الأرض كلما أحس أن الصهاينة يتلكأون بالالتزام بتعهداتهم؟
ما نراه اليوم في الضفة الغربية هو قصة نجاح صهيونية بامتياز، قصة تدجين السلطة وترويضها واحتوائها، بدأت منذ عملية "الجدار الواقي" عام 2002م ومروراً بحصار عرفات في المقاطعة، وانتهاء بالرسالة التي أوصلها قادة الأجهزة الأمنية إلى عزام الأحمد قبل ذهابه إلى دمشق أن العودة للمواجهة مع الاحتلال في الضفة الغربية هي خط أحمر لا يمكن القبول بها مهما كانت الأسباب، وتصريحات الناطق باسم شرطة دايتون عدنان الضميري أن عناصر حماس يتم اعتقالهم لأنهم يهددون "التزامات السلطة" الأمر الذي اعتبره اسهتدافاً للسلطة نفسها.
وهنا سنحاول تلخيص سلسلة الخطوات والأحداث التي حصلت في السنوات الثمانية الأخيرة، والتي انتجت لنا قصة النجاح الصهيونية في الضفة الغربية:
1- هنالك مبدأ في العقيدة الأمنية الصهيونية يسمى "كي الوعي"، أي الرد على أي مقاومة عربية بعنف وقسوة مبالغ فيها حتى يصل الطرف المقابل إلى مرحلة منع أي شخص يفكر بمهاجمة الصهاينة حتى لا يعم الضرر على الجميع وتخوين كل من يهاجم الاحتلال، وتكلم موشية يعالون رئيس أركان جيش الاحتلال عام 2003 عن ضرورة "كي وعي الفلسطينيين"، وهو ما كان ممارساً قبل ذلك من خلال الضربات العسكرية لمقرات الأجهزة الأمنية، فكانت رسالة الصهاينة للسلطة وللأجهزة أنكم لا تقومون بمنع عمليات المقاومة لذا يجب أن تدفعوا الثمن (بسبب عدم المنع).
2- لكن عرفات استمر بالمراوغة، وكان يحاول الامساك بالعصا من المنتصف مما أعطى المجال للمقاومة من أجل الاستمرار بالعمليات الاستشهادية ورفع وتيرتها، بحيث وصل الصهاينة في نهاية المطاف إلى قناعة أنه يجب إزاحة نهج عرفات المراوغ من الطريق، وانتهاج استراتيجية جديدة لضرب المقاومة وتحجيمها.
3- ابتداء من نيسان – 2002م (عملية الجدار الواقي) وحتى عام 2004م شنت عمليات عسكرية واسعة النطاق في الضفة الغربية من أجل ضرب خلايا المقاومة العسكرية، وتصفية قادة المقاومة، من كافة التنظيمات والأطياف السياسية، وبدأت عملية تفريغ الضفة من الأجهزة العسكرية الضاربة.
4- بدأ حصار ياسر عرفات بشكل مشدد منذ عام 2003م وصولاً إلى وفاته (أو اغتياله) عام 2004م، وهي لم تكن عملية للتخلص من شخص مزعج فحسب، بل ليكون عبرة لمن يخلفه، وما زال ما حصل له يخيم في ذاكرة السلطة وحركة فتح، والخوف من تكرار ما حصل معه يدفع عباس وفياض وقادة الأجهزة الأمنية لهذه التصرفات الغريبة والمستهجنة.
5- منذ توليه رئاسة السلطة حاول محمود عباس نزع سلاح المقاومة، وفي البداية طرح على الأمريكان احتواء حماس ونزع سلاحها من خلال ادماجها بالعملية السياسية، وحتى يستدرجها طلب منها أكثر من هدنة في العام 2003م (أثناء رئاسته للوزراء) والعام 2005م، وكان ينوي الاستمرار ليصل إلى مطلب نزع سلاحها بالكامل (هي وكافة فصائل المقاومة). كان عباس نموذجاً للقيادة الفلسطينية الجديدة التي طالب بها الأمريكان.
6- في موازاة جهود محمود عباس اعتمد الصهاينة على سلسلة من الخطوات الاضافية ابتداء ببناء جدار الفصل العنصري، وتلا ذلك البدء بحملة اعتقالات واسعة النطاق بحق نشطاء حماس في الضفة الغربية أواخر عام 2005م، طالت قطاعاً واسعاً من نشطاء الحركة بما فيهم نشطاء قدماء ونشطاء انقطعوا عن العمل منذ سنوات، وأطلق المعتقلون عليها تندراً حملة "نبش القبور"، لكنها في الحقيقة كانت قراراً استراتيجياً صهيونياً بضرب البنية التحتية لحركة حماس في الضفة الغربية ومطاردة مؤسساتها المدنية ومصادر تمويلها، وعدم اعطاء حماس الفرصة لالتقاط الأنفاس.
7- بعد انتخابات عام 2006م وتشكيل حماس للحكومة لم يعد بالإمكان الاستمرار بمخطط محمود عباس، لأن الحركة لم تقبل الخضوع لسياسة الاحتواء بل حاولت جر السلطة إلى مربعها هي، وتم تحريض حركة فتح لإفشال تجربة حركة حماس وفق سياسة "الفوضى الخلاقة" حسب تعبير كونداليزا رايس، وحوصرت الحكومة مالياً لكي تعجز عن دفع الرواتب، وبدأت الأمور بمناكفات حزبية لكنها انتهت إلى زرع قناعة في وعي القاعدة الفتحاوية بأن الراتب رهينة بيد الاحتلال الصهيوني، لذا نجد اليوم الاشاعات تخرج بأن السلطة تمر بأزمة مالية قبل كل جولة مفاوضات للسلطة مع الكيان الصهيوني، وذلك لقتل كل معارضة لهذه المفاوضات من خلال الايحاء "إذا لم تذهب السلطة للمفاوضات سيتكرر ما حصل مع حماس."
8- عندما وصل سلام فياض لرئاسة الحكومة بعد الانقسام عام 2007م بدأ بسلسلة تغييرات جوهرية على بنية حركة فتح والسلطة، فقام باحالة أكثر من أربعة آلاف ضابط من الأجهزة الأمنية على التقاعد المبكر وبشروط مغرية، والقاسم المشترك بينهم أنهم أعضاء من حركة فتح يمثلون العهد السابق (عهد عرفات) بمعنى آخر يوجد خطر من تكرار تجربة بداية انتفاضة الأقصى وحملهم السلاح ضد الصهاينة، وبدأ بالتنسيق مع الأمريكان والصهاينة من أجل إعادة بناء الأجهزة من جديد.
9- وهنا أتى دور الجنرال الأمريكي دايتون، وحتى نفهم دوره بالشكل الصحيح، فدايتون "الرجل" جاء من أجل تدريب الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وإعادة بناءها من ناحية فنية ومهنية، وهو لا يتخذ قرارات الاعتقال ولا يشرف مباشرة على رسم سياسات الأجهزة الأمنية، لكن حتى يعاد تشكيل عقيدة الأجهزة الأمنية تم "خلق" شماعة اسمها دايتون، فحتى لا يعترض ضباط ومنتسبي الأجهزة على القرارات التي تخالف قناعاتهم الوطنية أو الدينية يقال لهم "هذه أوامر دايتون"، ويحوم في ذهنهم مصير عرفات الذي "اغضب الأمريكان"، ومرحلة "قطع الرواتب"، فيقبلون القيام بالمهمات القذرة ويقنعون أنفسهم بأنهم "مضطرين"، فتم خلق أجهزة أمنية جديدة فبدلاً من الفتحاوي المتمرد على الأوامر والذي يعمل ما يحلو له أصبح الفتحاوي منضبطاً لا يخالف الأوامر ما دامت "صادرة" عن دايتون.
10- في موازاة ذلك بدأت حملة تهيئة نفسية لقاعدة فتح الشعبية، وقد أصبحت مهيأة لقبول الكثير من الأمور، فأصبحت الحرب مع حماس هي المعركة المصيرية، وأصبح كل شيء يمرر على أنه من متطلبات الحرب مع حماس، ومن أجل تبرير التعامل مع العدو الصهيوني تم الحرص على إبراز حماس كعميل لإيران "العدو العقائدي"، و"ما فيه حدا أحسن من حدا" و"نحن عملاء وهم عملاء" وهو ما يسمى في علم النفس الاسقاط؛ أي أن تسقط عيوبك على الآخرين حتى تبرر لنفسك ما تقوم به، وإذا سألتم لصاً يوماً لماذا تسرق فستكون إجابته "كل الناس حرامية".
11- بدأ الصهاينة بعدها بتسليم الأجهزة التابعة للسلطة مهمات للقيام بها بشكل تدريجي حتى يتاكدوا من التزامها بمعايير محددة تثبت "كفاءتها"، وكلما أثبتوا كفاءتهم كلفوهم بمهمة جديدة وهكذا، وحتى يعطوهم شعوراً بالانجاز وحافزية يسمون المهمات بتسليم السيطرة الأمنية للسلطة، علماً بأنها تسمية فارغة المضمون لأن السيطرة النهائية هي لجيش الاحتلال الذي يحتفظ بحقه في التدخل متى شاء، لكن يتم تغليفها بمسمى براق لكي يشعر قادة الأجهزة الأمنية أن لديهم "ما يخسرونه" وبالتالي يحرصوا على السير قدماً في إثبات "كفاءتهم" للصهاينة.
12- وصلنا إلى مرحلة تمكن الصهاينة ترويض الأجهزة الأمنية، وإعادة تشكيل تفكير القائمين عليها بحيث يعرفوا ما "المطوب" منهم بدون أن يقول لهم أحد أو (يفهموها على الطاير) كما هو التعبير الشعبي، وبالتالي الحديث عن المصالحة مع حماس يستحضر عدة هواجس لدى الأجهزة الأمنية: حماس عدو، وحماس لها "أجندة خارجية"، والمصالحة مع حماس تعني الاخلال بالتزامات السلطة تجاه "الطرف الآخر" – أي الصهاينة، والمصالحة تعني عودة الحصار وتكرار مأساة قطع الرواتب وما حصل لعرفات.
13- فهكذا نجد الأجهزة الأمنية ومنظومتها تبدأ العمل كلما اقترب الحديث عن جلسات للمصالحة: تصعد من اعتقالاتها لمؤيدي حماس وتخترع قصصاً عن مؤامرات حمساوية لاغتيال مسؤولين في السلطة، تبدأ ببث الاشاعات عن تهديدات صهيونية بإعادة احتلال الضفة في حال تم التوصل لمصالحة (وكأنه الضفة ليست محتلة أصلاً)، وتحاول التمسك بشكليات تافهة (مثل مكان انعقاد جلسة الحوار)، ففتح والسلطة لا تجرؤ اليوم على التفكير بمصالحة مع حماس، ما لم تتضمن هذه المصالحة جر حماس إلى مربع ارتباطات فتح الأمنية وبالتالي الحصول على مباركة صهيونية وأمريكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق