زيف الوعود الأمريكية بإقامة دولة فلسطينية د. محمد الغزي
لا تعبر الوعود الأمريكية بإقامة دولة فلسطينية عن أي تغيير في مواقف الولايات المتحدة تجاه قضية فلسطين، فلا تهدف تلك الوعود إلا إلى إجهاض المقاومة الفلسطينية، وتغيير شكل الاحتلال الصهيوني وإدارته، وليس إزالته، وتهدئة منطقتنا العربية والإسلامية، وتهيئتها للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وإنجاز الأجندة الصهيوأمريكية للشرق الأوسط.
والمتأمل في مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة إزاء قضية فلسطين، يجد أن الوعود الأمريكية بإقامة دولة فلسطينية بجانب الكيان الصهيوني تهدف إلى منع إقامة دولته فلسطينية مستقلة، فالسياق التاريخي للسياسات والمواقف الأمريكية تجاه قضية فلسطين يثبت أن تلك الوعود زائفة. ففي الماضي، وعد الأمريكيون بإقامة دولة فلسطينية، وتعهد رؤساء أمريكيين سابقون بحماية حقوق الشعب الفلسطيني، ولكن المواقف الأمريكية من الهجرة غير الشرعية لليهود والصهاينة إلى فلسطين ومن استيلائهم على الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات اليهودية عليها تتناقض مع تلك الوعود والتعهدات.
ففي 1919، وبناء على تقرير "لجنة كنغ" الأمريكية، اعترفت الحكومة الأمريكية بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في دولة مستقلة يقيمها على أرضه. وفي 1946 أيدت الولايات المتحدة إقامة "دولة ديمقراطية" في فلسطين يعيش فيها الفلسطينيون واليهود جنباً إلى جنب، وبوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وفي 1947 نكثت الولايات المتحدة بوعودها وتعهداتها، فوافقت على قرار التقسيم ووضع القدس تحت الإشراف الدولي. وطالب المندوب الأمريكي لدى الأمم المتحدة "فيليب غيوسوب" بإقامة دولة فلسطينية وفقاً لقرار التقسيم، ووافقت الولايات المتحدة على عودة الفلسطينيين إلى أرضهم التي هجَّرهم الصهاينة منها خلال حرب 1948، ولكن كل ذلك كان مجرد وعود كاذبة.
وفي 1949 بعث الرئيس الأمريكي "فرانكلين روزفلت" برسالة إلى الملك عبد العزيز بن سعود يطمئنه فيها بعدم تغيير الحكومة الأمريكية موقفها تجاه الشعب الفلسطيني إلا بعد التشاور مع الزعماء العرب، وأنها لن تُقدِم على أي أعمال عدائية ضد الشعب الفلسطيني، ولكن الممارسات الأمريكية كانت تناقض مواقفها السياسية المعلنة التي كانت تهدف إلى إجهاض المشروع التحرري الفلسطيني.
وبعد الحرب العالمية الأولى، تغيرت سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة العربية، فتمثلت في السعي إلى الهيمنة عليها ودعم الكيان الصهيوني. ولذلك شهدت العقود الستة الماضية تنكراً أمريكياً واضحاً لحقوق الشعب الفلسطيني، رغم الوعود الكاذبة، ولم ينقطع الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني لحظة واحدة، بل كان يتعاظم كلما صعَّد الشعب الفلسطيني مقاومته.
وفي السنوات القليلة الماضية، أدرك الأمريكيون أن استمرار المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال يؤدي إلى عرقلة مشروع إعادة صياغة الشرق الأوسط بما ينسجم مع مصالحهم، إذ لا يمكن نجاح هذا المشروع في ظل تزايد مشاعر العداء والكراهية للسياسات الأمريكية في منطقتنا، فلم يجد الأمريكيون بداً من طرح مبادرات سلام وهمية، لإلهاء الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ولتبرير الحرب على المقاومة الفلسطينية والتغطية عليها وتهيئة الأجواء لعملية التسوية. وقد أثبتت الأيام أن الوعود الأمريكية تهدف إلى إلهاء الفلسطينيين والعرب بمفاوضات عبثية تستمر لعشرات السنين، بينما تستمر عمليات التهويد والاستيطان ومصادرة الأراضي الفلسطينية وتقويض أركان المسجد الأقصى المبارك.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الموقف الرسمي العربي اتسم دائماً بالضعف والنفاق والتفريط بالحقوق الفلسطينية، ولم يكن فاعلاً على المستوى الدولي، فقد تزاحمت في الفضاء الرسمي العربي مبادرات عديدة تقوم على أساس انسحاب الكيان الصهيوني إلى حدود 1967 وإقامة دولة فلسطينية معدومة السيادة على جزء من فلسطين، في مقابل التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني. والقاسم المشترك بين كل المبادرات العربية هو المرونة الكبيرة في التعامل مع قضية القدس وعودة اللاجئين والحدود النهائية.
واتسمت المواقف الصهيونية إزاء تلك المبادرات بالرفض، ليس بسبب الشك في مدى جديتها، وإنما بسبب اعتقاد الصهاينة أن السلام يهدد وجود كيانهم، وفقاً لما صرح به زعيم حزب العمل الصهيوني "حاييم وايزمان" حول مبادرة الرئيس المصري أنور السادات للسلام، قائلاً: "هذا السلام لن يمكِّن (إسرائيل) من الوجود وفقًا للحجم والروح والكيفية التي تمثلها الآن".
وتنسجم تلك المواقف الصهيونية مع الأيديولوجية الصهيونية، التي تنكر وجود الشعب الفلسطيني، وقد عبر عن هذه الأيديولوجية "ديفيد بن غوريون" بقوله: "إن من يحاول بحث المشكلة الصهيونية من جانب أخلاقي فليس صهيونياً"، ووصف "شيمون بيريز" خطة الملك فهد لعام 1981 بأنها "تهدد الوجود (الإسرائيلي) ذاته"، ما يدل على أن الأيديولوجية الصهيونية ترفض السلام مع العرب وتسعى للتوسع على حسابهم وإقامة دولة يهودية تمتد من النيل إلى الفرات.
إن الرؤية الصهيونية للدولة الفلسطينية لا تتجاوز حكماً ذاتياً محدوداً على أقل من 22% من الأراضي الفلسطينية، وما يدفع الصهاينة إلى التفاوض مع الفلسطينيين والعرب هو الهدف الأمني، لتوفير جو موات لتقدم المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة، ولهذا فإن كل المزاعم التي تنادي بقيام دولة فلسطينية لا تهدف إلا إلى لمراوغة واستغلال الضعف العربي لفرض الرؤية الصهيونية للدولة الفلسطينية معدومة السيادة. ولتحقيق هدفه، يعمل العدو الصهيوني باستمرار على تحويل قضية فلسطين إلى معاناة حياتية للشعب الفلسطيني، لصرفه عن هدفه الحقيقي، وهو تحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها.
إذاً فالدولة الفلسطينية المطروحة صهيونياً وأمريكياً هي مجرد حكم ذاتي محدود على المواطنين الفلسطينيين فقط، وإعادة نشر جيش الاحتلال الصهيوني، وتوزيع المستوطنات الصهيونية على الأرض الفلسطينية دون أن يحصل الفلسطينيون على أي سيادة حقيقية على الأرض والجو والبحر والحدود.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق