حفظ القرآن أم فهم القرآن ؟
بقلم د.خالص جلبي
أرسل لي الظريف أبو طريف من بلاد الجرمان يسأل عن جدوى إغلاق أو فتح معاهد تحفيظ القرآن؟ فكان جوابي أن لا فائدة من الحلقات أو غيابه؛ا فكله لايقدم ولا يؤخر في شيء باستثناء زيادة نسخ المصحف؟ كما قالها يوما الإمام محمد عبده حين أخبروه أن فلانا حفظ القرآن؛ فعلق زادت نسخ القرآن نسخة؟ ولم يزدد الفهم سطرا؟
وقبل أيام اجتمعت بأخت فاضلة أبت مدرِّستها (الشيخة) إلا أن تحفظِّها سورة طويلة، ثم طلبت مني أن أسمِّع لها شيئا من حفظها؛ فلما سمعت قلت لها ماهكذا تورد الإبل ياسعد؟
قالت لم أفهم؟؟
قلت لها الحفظ لايوصف بأنه جيد، ولو كان جيدا فليس بجيد؟
قالت لم أفهم؟
قلت لها النقش في الصغر كالنحت في الحجر؟
قالت لم أستوعب؟
قلت لها: ذكر القرآن الاستيعاب والفهم والتدبر والتأمل وهل في ذلك قسم لذي حجر إن في ذلك لآيات لأولي النهى، وكل مشتقات العقل والفكر والتدبر في 42 موضعا، ولم يذكر الحفظ في موضع واحد؟ بل ذكر عكسه؟
قالت: وكيف ذلك؟
قلت لها: ذكر القرآن اهل الكتاب بما استُحْفِظوا من الكتاب، أما القرآن فقد تكفل الله بحفظه، فقال في سورة الحجر إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون؟
قالت: وما الضير في حفظه؟
قلت: المشكلة ليست في الحفظ بل المحافظة عليه؟
قالت: لم أفهم؟
قلت: حفظه يحتاج لسبع سنين دأبا فذروه في سنبله، والمحافظة على ماحفظت يحتاج كل يوم ساعتين من التكرار مثل الآلة المسجلة، وهو تلاوة تحتاج لسرعة وعدم تركيز، اللهم إلا على تأكيد حفظ الكلمات، عكس الفهم بالتوقف الطويل كما جاء في حديث الصحابي الذي كان يشرح آلية (المكث) و(التنزيل) وأنه كانت إذا تنزلت عليهم عشر آيات تدبروها ثم عملوا بها، ولماذا لم يتنزل الكتاب دفعة واحدة؟ تأمل الآية:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا..
فلم يكن القرآن كتاب هندسة ورياضيات وكيمياء وجبر؟ أو رواية فيكتور هوجو وستيفان زيفايج للتسلية والمتعة؟ بل حتى لتأثر ساعة ويوم؟ بل كتاب نفسي ينفض الروح بتيار كهربي؟ عكس عمليات معاهد تحفيظ القرآن، بإنتاج آلات مسجلة في الليل، وحمد السلطان والثناء عليه وجلاديه وعسكره وتقبيل يديه في النهار، كما جرى في بلاد الشام من فتح معاهد تحفيظ قرآن بما هو ضد القرآن، باسم سلطان غشوم ظلوم سفاح زنيم، يؤمم الفكر الديني في قناته البعثية الإلحادية، ويظهر على العباد بجلد أخضر قرآني من سندس واستبرق وهو عدو القرآن وأهله؟ قتل منهم في الصحراء عشرات الآلاف بالف قتلة وميتة؟ وتلامذة المعاهد يحفظون آيات لعن فرعون على شكل محنط ميت؟
إنه كتاب جاء لقلب المعاني والمفاهيم، وتغيير كامل خريطة الإنسان، وهي عملية تربوية شاقة، لمعاملة طويلة تنقش فيها الآيات على الأعصاب ساخنة في لحظات تقرير المصير ومناسبات القدر الهائلة.
في الحفظ هذرمة وطيران، أما في الفهم والتدبر فمعان، وقد يقعد صاحبها على آية ساعتين كاملتين؟ تأمل آية المكث؟
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل .. وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا؟ قل أمنوا به أو لاتؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا..
ياترى كم عدد حفَّاظ القرآن، من نسخ أجهزة التسجيل في المعاهد المحنطة، يتفاعلون مع القرآن على هذه الصورة؟
لقد وصف مالك بن نبي حسن البنا في كتابه وجهة العالم الإسلامي (ص181) وكيف كان يتفاعل مع القرآن والجمهور، أنه لم يكن يتلوه عليهم تلاوة، كما في معاهد التحفيظ الميتة المسجاة كجثة، كما لم يكن يفسر القرآن تفسيرا؟ بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها؛ فالقرآن لم يعد على شفتيه وثيقة بادرة أو قانونا محررا، بل كان يتفجر كلاما حيا، ونوراً آخذاً يتنزل من السماء، فيضيء ويهدي، ومنبعا للطاقة يكهرب به إرادة الجموع؛ فيسير بها نحو مصير جديد؟
ليس على طريقة هتلر إلى الكارثة؛ فالرجل أيضا كان خطيبا مفوها مصقعا، بل إلى الخير العميم، في تغيير مصير أمة، ومنه وبهذا السبب تم اغتياله لاحقا بعد أن تفطنت دوائر الاستعمار العالمية لخطر تحول الأمة المصرية فعليا إلى المعاصرة مع روح القرآن العظيم؟
لم يكن الرجل يتحدث عن ذات الله التي حرصت عليها مدارس علم الكلام عن الله العقلي، فضلا عن الشكل الذي يتشكل في ذهن طلبة المعاهد المقرودين، بل كان يتحدث عن الله الحي الذي لايموت، القوي المتين، الفعَّال لما يريد، المتجلي على العباد بالرحمة والقهر، الذي هو معهم أينما كانوا، يسمع نجواهم وما تخفي الصدور، تماما كما كان المسلمون الأوائل يستحضرون هذا المعنى فصنعوا التاريخ؟
تجلت في بدر وحنين والخندق ومؤتة وفي حوار المرأة تجادل زوجها والله يسمع تحاوركما ..
فالحقيقة القرآنية كما يذكر مالك بن نبي في كتابه، تظهر هنا بأثرها المباشر على الضمير والأشياء والأناسي، في تولفية نادرة وخلطة ماهرة باهرة مميزة لصناعة التاريخ؟
والفكرة التي كانت مجردة من قبل، أخذت هنا وضعها في (تركيب Structure) ناشط للفكر والعمل والنهضة، مثل دينمو السيارة لشحن البطارية بالطاقة، أما نحن اليوم مع معاهد التحنيط والتجميد العقلي، فلا تزيد العقل إلا خمولا وسباتا وشخيرا عميقا، وهيهات لمن فكَّر وقدَّر فقُتل كيف قدر؟ ولا الروح إلا نكسا وتعسا، ولا تغير أمورنا إلا نحو الأسوء، كما هو واقع العالم الإسلامي الذي يعيش عام 2010م متجمدا عند عام 1431 ميلادي، قبل عصر الثورة الفرنسية أيام المملوك سعيد جقموق من عصر المماليك الشراكسة؟
يذكر عن الشافعي لما كان في ضيافة ابن حنبل في ليلة، أنه سهر طول الليل على حديث (ياعمير مافعل النغير) فاستخرج بضعا وسبعين حكما، مثل ينبوع متدفق من المفاهيم؟ هذا ماكان من الحديث فما ظنك بالسبع المثاني من الذكر والقرآن الحكيم؟
توجهت لها أخيرا فقلت أختي الفاضلة ما أنصحك به أن تحفظي لصلاتك مقاطع موسيقية جميلة، من أماكن متناثرة من القرآن، وأنا رجل أزعم لنفسي أنني اشتغلت على القرآن جيدا؛ فأخذ مني ثماني حجج من العمل الدؤوب الصموت المتواصل، كنت أخرج خلالها إلى البرية صحبتي الطيور وإشراقة الشمس ولفح الهواء والمصحف في يميني؛ فحفظت سورا أذكرها في أماكن خاصة، سورة مريم مع سفرة العراق البرية والوجوه القبيحة البعثية، البقرة في مدرسة ثانوية العروبة والبعث يستلب أرواحنا إلى يوم البعث، سورة يونس على ظهر بيت صديقي حسان جلمبو الذي قضى نحبه على يد زبانية تدمر فأحضروه لأهله بعد قصور كلوي واحتضار كئيب طويل مثل أعجاز نخل منقعر؟ فهل من مدكر؟ سورة آل عمران بجنب المسجد الكبير في القامشلي وسوق الخضرة وموتورات الديزل الأرمنية تطفيء صوت الأذان.. وهكذا..
احفظي مثلا آخر سورة الشعراء بدء من (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين). آخر سورة البقرة من (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون)؟ آخر سورة آل عمران (إن في خلق السموات والأرض لآيات لأولي الألباب)؟ آخر الفرقان (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا)؟ آخر سورة النحل (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) الجزء 27 ربما كله مثل سورة الذاريات والقمر والطور والنجم والواقعة والرحمن فهي موسيقية، ولا تنس ق بدلا عن الحديد وآخر سورة هود فقد شيبت الروسل ص وهي تشرح مصير فرعون وجنوده من العربان الغربان؟ وربما كل الجزء 29 مثل الملك والقلم والحاقة والمعارج ونوح والجن والمزمل والمدثر والقيامة والدهر أوالإنسان والمرسلات ولا تنس سورة مريم ربما كلها والقسم الأول من سورة طه، والجزء ثلاثين كله بالتأكيد؛ من سورة النبأ والنازعات وعبس والتكوير والانفطار والمطففين والانشقاق ولاتنس البروج في محنة المؤمنين على مدار التاريخ حرقا وقتلا وغرقا ورميا للضواري وسورة الأعلى والطارق والغاشية والفجر والبلد ختاما بسورة الشرور هكذا أسميها عن الاستعاذة من المؤامرات إذا حبكت وحيكت، والحسود إذا أضمر الشر وبيَّت، والليل وما يحمل من ظلام وكوارث؟ والختام الرائع للقرآن من سورة الناس في معادلة ثلاثية، أن الملك والرب والإله واحد وهي لله تعالى فلا ملك في الأرض ولا رب ولا إله سواه؟؟ إلى يوم الدين.
هزت رأسها ولم أعرف مدى استيعابها؟ ويروى عن حسن البنا أنه قال إذا كررت فكرتك عشرين مرة وظننت أنهم فهموا عليك فأنت متفاءل؟؟
وهذه أحد مشاكل حفظ القرآن أي المتشابه، فوالذي نفسي بيده إنه لأشد تفلتا من الإبل في عُقُلها، وراجع آيتي دخول القرية في سورة البقرة والأعراف تعطيك الخبر اليقين؛ فهناك أحد عشر مترادفا، والقوي المتين من أمسك بها؛ تامل وقارن بين سورتي البقرة والأعراف بالترتيب؟؟
(1+2) وإذ قلنا ... ادخلوا هذه القرية .. وإذ قيل لهم ... اسكنوا هذه القرية..
(3+4) فكلوا منها حيث شئتم رغدا... وكلوا منها .. بدون رغدا
(5) وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة.... وقولوا حطة (مقلوبة الترتيب؟) وادخلوا الباب سجدا..
(6) نغفر لكم خطاياكم ... نغفر لكم خطيآتكم؟
(7) وسنزيد المحسنين ... في سورة الأعراف (بدون واو) سنزيد المحسنين؟
(8) فبدل الذين ظلموا ... فبدل الذين ظلموا منهم (بإضافة منهم؟)
(9+10) فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا ... فأرسلنا عليهم رجزا من السماء؟
(11) بما كانوا يفسقون ... بما كانوا يظلمون
فهذه هي قصة حفظ القرآن وفهم القرآن، وربما مر العديد من القراء فلم يتفطنوا لهذه الفروق الدقيقة المحيرة والمتعبة جدا في الحفظ، فضلا عن المحافظة..
إنها تذكرني بمادة الجيولوجيا، حين حاولت حفظ خواص المعادن؛ فعييت ولم أتابع، وهي مشكلتي الشخصية مع القرآن أن لايتفلت من صدري، لذا اعتمدت القراءة الدورية له، فإذا ختم أعيد ولا أملّ من الغوص في بحر المعاني لقنص الدرر واللؤلؤ والمرجان.. فبأي آلاء ربكما تكذبان ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق