السبت، 20 نوفمبر 2010

مصر وأزمة التعايش

مصر وأزمة التعايش !!
___________________________________________

لا عيش مشتركاً بغير حلم مشترك
فهمي هويدي
جريدة الوطن الكويتية

ثمة خطاب يسعى إلى إقناع الرأي العام بأن الإسلام أصبح مشكلة في مصر- غياب الرؤية الاستراتيجية أشاع قدراً لا يستهان به من الحيرة في المجتمع لا أحد يجادل في أهمية أن نعرف ماذا حدث لمصر والمصريين خلال السنوات الأخيرة، لكني أزعم أن الأهم من ذلك ان نعرف أيضاً لماذا حدث ذلك، لأنه اذا كان تشخيص العلل واجباً، فإن تحري مصدرها أوجب.

(1)

نشرت صحيفة «الشروق» يوم الخميس الماضي (4-11) مقالة للدكتورة نيفين مسعد أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة حذرت فيها من تعدد الانقسامات في المجتمع المصري، التي لاحظتها مجسدة في مدرجات الجامعة.

فذكرت أنه مع ظهور الجماعات الإسلامية في الجامعات إبان سبعينيات القرن الماضي بدأ الفرز التدريجي بين الطلاب والطالبات على أساس الجنس، حيث أصبح أغلب الذكور يجلسون في جانب في حين اتجهت الإناث الى الجلوس في جانب آخر.

ثم لاحظت أن ثمة فرزاً آخر بدأ يظهر في وقت لاحق على أساس الطبقة، وتحدثت عن نموذج لإحدى طالبات القسم الانجليزي بكلية الاقتصاد رفضت الاشتراك في بحث مع زميلتها في القسم العربي.
ولفتت الانتباه الى اصطفاف ثالث لاحت بوادره انبنى على أساس الانتماء الديني بين المسلمين والأقباط. وهو ما اعتبرته أخطر أنواع التمييز. وحذرت من التداعيات التي يمكن أن تفضي الى مزيد من الاصطفافات والشرذمة، على أساس الانتماء الى المذهب أو الى التيار الفكري أو الفصيل السياسي.
ثم خلصت الى أنه «لابد من كسر حاجز الجليد داخل مدرجات الجامعة» قائلة إن أي أستاذ مخلص لا يقبل أن يكون شاهداً على أجيال تعيش في جزر متباعدة وتضمها أمصار التعصب والفتنة، مع أن الاسم أن مصرنا واحدة».

رسالة المقالة أطلقت تحذيراً في محله لا ريب، حيث سلطت الضوء على أعراض واقع سلبي يتشكل في مصر. إلا أنه ينطبق عليها الملاحظة التي أوردتها في الأسطر الأولى، من حيث انها قدمت لنا إجابة عن السؤال «ماذا»، وتركتنا حائرين لا نعرف بالضبط «لماذا»؟، على الرغم من أنها ألمحت الى ان الفرز في الجامعات بدأ مع ظهور نشاط الجماعات الإسلامية بين طلابها.

هذا التوصيف ينطبق على أغلب الكتابات الصحافية التي تناولت المتغيرات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على الواقع المصري، خصوصا تلك التي عالجت أبرز الهزات التي ضربت ذلك الواقع، وتمثلت في ظاهرتي العنف والإرهاب وأجواء التعصب التي أفضت الى توترات ومشاحنات بين المسلمين والأقباط.
إذا أحسنا الظن فقد نقول إن الكتابات الصحافية بطبيعتها لم تحتمل غوصا في الأعماق وسبراً للأغوار. لكن ذلك لا يمنعنا من ملاحظة ان نسبة غير قليلة من تلك الكتابات ظلت مهجوسة بمحاكمة الواقع ورافضة لتقصي جذوره، إما سعياً وراء تصفية الحسابات الفكرية دفاعاً عن الذات، أو استجابة لتوجيهات سياسية دفاعاً عن الحكومة. وفي الحالتين فإنها تجاهلت عمدا عوامل البيئة التي أفرزت تلك التحولات.

اختلف الوضع بصورة نسبية فيما يتعلق بالكتب والأبحاث التي تناولت الموضوع. وفي المقدمة منها كتاب «ماذا حدث للمصريين؟» الذي أصدره الدكتور جلال أمين في عام 1998، وأرجع فيه أغلب التحولات الى ما سماه «الحراك الاجتماعي» وثيق الصلة بأجواء الانفتاح الاقتصادي التي عصفت بالمجتمع المصري منذ السبعينيات (لاحظ ان الدكتورة نيفين سعد أرجعت مقدمات الفرز داخل الجامعات الى بدء ظهور الجماعات الإسلامية في محيطها في الفترة ذاتها)

وللدكتورة عزة عزت كتاب في الموضوع تناول التحولات في الشخصية المصرية، كما ان مركز البحوث الاجتماعية والجنائية ظل متابعاً للمتغيرات الحاصلة في المجتمع، من زاوية رصد مؤشراتها المختلفة. وهو ما عمدت اليه دراسة أصدرها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء.

(2)

أعاد الدكتور جلال أمين سؤال المتغيرات يوم الجمعة الماضي (5-11) حين نشرت له جريدة «الشروق» مقالاً تمثل عنوانه في السؤال التالي: كم تدهورنا منذ الشيخ محمد عبده؟
وقد استهل المقال بتسجيل انطباعاته حين أعاد قراءة أفكار الشيخ الإمام وآرائه النيرة التي عالج فيها قضية العلاقة مع غير المسلمين والموقف من العقل والتكفير والفنون وغير ذلك.

وعلق على تلك الأفكار بقوله إنها راعته ليس فقط لتقدمها ولكن أيضاً لأنها كشفت له عن مدى التدهور الذي وصل اليه حالنا. وتساءل بعد ذلك قائلاً:

"هل تحتاج وزارة التربية والتعليم وهي تبحث عن كتب جديدة تضعها بين أيدي الطلاب الى إطالة البحث، ولديها وأمام عينيها كتابات الشيخ محمد عبده البسيطة والواضحة، والتي يمكن أن يتعلم منها التلاميذ ليس فقط كراهية التعصب وحب المختلفين عنهم في الدين وأهمية البحث العلمي والابتكار، بل تغرس فيهم أيضاً حب اللغة العربية الجميلة؟"

على الهاتف قلت للدكتور جلال أمين إن أغلب الآراء المتقدمة والبديعة التي عبر عنها الشيخ محمد عبده موجودة في كتابات سابقيه ولاحقيه، وان ما يحتاج الى تفسير وتحليل هو ظهور تلك الأفكار النيرة في مرحلة ثم سيادة الأفكار المضادة والمظلمة في مرحلة أخرى.

علماً بأن تأثير هذه الأفكار النيرة أو تلك المظلمة لا تقف عند حدود المتلقين، ولكن الحاصل ان أصداءها تنعكس على الإدراك العام، بحيث تشيع أفكار الإمام محمد عبده، وأمثاله انطباعاً ايجابياً عن سعة الإسلام وسماحته وقدرته على احتواء الجميع على النحو الذي يشهد به سجل التجربة الإسلامية.
أما الأفكار المظلمة فإنها تشكل إدراكاً معاكساً يصور الإسلام بحسبانه قطيعة مع الآخرين وإقصاء للمخالفين وإهداراً لحقوق النساء وغير المسلمين.. الى آخر الشرور والمثالب التي تعرفها.

في الحالتين ظلت المرجعية الإسلامية واحدة لم تتغير، ولكن الذي حدث أن ظرفاً تاريخياً إيجابياً توافر في لحظة ما فاستدعى الأفكار النيرة والبناءة. ثم في ظرف تاريخي آخر برزت عناصر سلبية استدعت من ذات الوعاء أفكار التعصب والقطيعة والفتنة. وهذا الظرف يتمثل في البيئة السياسية والثقافية والاجتماعية السائدة، التي تشكل تربة استنبات الأفكار.

إذا صح ذلك التحليل فهو يعني ان الاكتفاء بمحاكمة الأفكار بمعزل عن البيئة التي انتجتها لا يرتب حكما خاطئا فحسب ولكنه أيضاً لا يسهم في علاج أي من العلل التي واجهت المجتمع بسببها، وإنما يؤدي الى استفحال تلك العلل واستعصائها بمضي الوقت.

(3)

ثمة خطاب يسعى الى اقناع الرأي العام بأن الإسلام أصبح مشكلة في مصر، ولا أعرف ما اذا كان ذلك من قبيل التحدي المرحلي لشعار «الإسلام هو الحل» الذي يرفعه الإخوان المسلمون، أم ان الانحياز الى هذا الموقف يستهدف استبعاد الإسلام واخراجه من المجال العام.

لكن الشاهد ان الاحتمالين قائمان. ذلك ان بيننا من يريد فقط ان يتحدى شعار الإخوان لفض الناس من حولهم في المعركة الانتخابية، وهناك أيضاً من لم يخف سعيه وإلحاحه على إقصاء الإسلام ونفيه من الواقع.

وهي ممارسات أصبحت تتم على المكشوف، حتى ان بياناً صدر ووقعه نحو مائة من المثقفين العلمانيين طالبوا فيه صراحة بإلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الإسلام دين الدولة والعربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع.

ولاتزال تلك الدعوة تتردد في كتابات بعض المثقفين، الذين اعتبروا أن إلغاء الهوية الإسلامية هو مفتاح حل المشاكل، الذي به يتحقق السلام الاجتماعي ويتقدم المجتمع المدني ويعود الوئام الى علاقة المسلمين بالأقباط.

صحيح أن الذين يتبنون هذا الموقف الأخير قلة استثنائية في المجتمع المصري، ولكن أغلب هؤلاء مكنوا من مواقع مؤثرة في مجالات الإعلام والثقافة. الأمر الذي سمح بتوسيع نطاق تشويه الإدراك العام، حتى أصبحت الفكرة مسلماً بها لدى قطاعات غير قليلة من المتعلمين، وغابت عن الأذهان حقيقة ان المجتمع المصري عاش طويلاً في ظل التعاليم في سلام ووئام، وأن الإسلام فيه ظل مصدر قوة وليس مصدر ضعف، وما خطر على بال أحد ان يكون الإسلام مصدرا لتعاسته كما يصور البعض الآن.

(4)

عندي ستة أسباب أزعم أنها تكمن وراء حالة الانفراط والتفكك التي تسود المجتمع المصري الآن، وأزعم أنها تفسر الكثير من الأعراض التي ظهرت على سطح المجتمع. هذه الأسباب هي:

1) غياب الديموقراطية، الذي كان بمثابة ضربة قاصمة لفكرة العيش المشترك. من ثم فبدلاً من أن يشعر المواطنون بأنهم شركاء في صناعة الحاضر وبناء المستقبل، بدلاً من ان يشتركوا في نسج الحلم معا، فإنهم اكتشفوا أنهم مجرد رعايا لنظام احتكر السلطة واختار ان يحتكر أيضاً صناعة الحاضر والمستقبل. وهو ما حكم على المواطنين بالاغتراب في الوطن، فلجأت كل جماعة منهم لأن تحتمي بالجماعة أو الفئة أو القبيلة السياسية.

2) غياب الرؤية الاستراتيجية، الذي أشاع قدراً لا يستهان به من الحيرة في المجتمع، بحيث لم يعد الناس يعرفون بالضبط هم مع ماذا أو ضد ماذا، ومن هم الأصدقاء ومن هم الأعداء. وحين غابت تلك الرؤية تمزق الوعي المشترك وتحول المجتمع الى جزر منفصلة. فانكفأ كل على ذاته، واستشعر غربة إزاء الآخر.

3) تشويه الدين وتخويف الناس منه، وتصويره باعتباره عنصر اقصاء وخصم وسبباً في التخلف، وليس رافعة للتقدم وباباً للتراحم والتعاون على البر والخير، واذا كان المتعصبون والإرهابيون قد أسهموا في ذلك التشويه إلا أن الخطاب السياسي والإعلامي انصرف الى قمع التعصب والإرهاب، ولم يلق بالاً الى تشجيع الاعتدال والمراهنة عليه.

4) الدور التاريخي الذي قام به العلمانيون في الإلحاح على إضعاف الدين وتهميشه، والإلحاح على اعتبار حضوره في المجال العام مصدرا لمختلف الشرور التي تهدد المجتمع. وقد كان ولايزال جهدهم الذي بذلوه في تعميق الوقيعة بين المسلمين والأقباط على رأس الشواهد الكاشفة لذلك الدور.

5) الضائقة الاقتصادية التي ضغطت بشدة على مختلف الشرائح، وسحقت الطبقة الوسطى التي كانت تقليديا أحد أهم عناصر القوة والإبداع في المجتمع، ولأن «الجوع كافر» كما يقال فلك ان تتصور تأثيره على منظومة القيم السائدة، وعلى علاقات الطبقات والفئات بعضها ببعض، وعند الحد الأدنى فإنه يتعذر الدفاع عن قيمة التسامح مثلاً حين يصبح الجميع تحت وطأة تلك الضائقة.

6) الاختراقات الخارجية التي استثمرت أجواء ضعف مناعة المجتمع لكي تمارس حضورها وأنشطتها في ساحات عديدة، مستفيدة من حالة الوهن التي تعاني منها منظمات المجتمع المدني لصالح إغداق التمويل على تلك المنظمات، الذي ارتبط دائماً بأجندة الجهات الممولة، في المجالين السياسي والاجتماعي.

إن الانفراط الحاصل في المجتمع المصري الآن، والتفكيك المشهود لوشائجه وروابطه نتيجة طبيعية لتلك العوامل مجتمعة، التي من شأنها تغييب الحلم المشترك، ومن ثم وضع العراقيل أمام تحقيق أمل العيش المشترك.

ومن الخطأ المنهجي والتاريخي أن يحمل عنصر واحد بالمسؤولية عن التراجع والتدهور الحاصلين في بنية المجتمع المصري وقيمه. علماً بأن الابتسار أو الاختزال في هذه الحالة يخرج الملف من نطاق البحث الموضوعي ويدخله في مسار آخر تتراوح مراتبه بين سوء التقدير وسوء النية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق