السبت، 5 مارس 2011

من ميدان التحرير إلى ساحة الجامع الحسيني .. بقلم : توجان فيصل

2011-03-03
 

سقوط الدول يحسم بسقوط عواصمها, ومثله نشوء الدول أو تحريرها، وفي كل أمر سياسي ذي شأن يشار إلى الدولة باسم عاصمتها لأنها مكان صنع القرار السياسي. ولا تنقص -بل تتأكد وتتكرس- تلك الصفة السياسية السيادية للعاصمة في الدول الاتحادية, أي أن القرار السياسي السيادي يصبح أكثر مركزية. ولهذا تفصل العاصمة عن أي ولاية أو إقليم كما حصل في أميركا، حيث منطقة واشنطن لا تعتبر جزءا من أي ولاية بما فيها تلك التي تقع واشنطن ضمنها جغرافيا.

قبل قيام إمارة شرق الأردن, لم تكن الكيانات التي قامت على ذات مساحة الأرض دولة موحدة مستقلة, بل كانت المنطقة بكاملها تتبع دولا كبرى. وقسمة التبعية الإدارية للأردن كانت تجري أفقيا في الغالب. وفي العهد العثماني كان "سنجق الأردن" يشمل شمال الأردن (الحالي) وشمال فلسطين, و"سنجق فلسطين" يضم جنوب الأردن وجنوب فلسطين. ومثل هذه الحالة تنتج مدنا محورية، ولكنها لا تنتج هويات فرعية.

وهوية الأردنيين منذ الفتوحات الإسلامية أصبحت عربية -سورية (بمعنى سوريا الكبرى) مسلمة- مسيحية, باعتبار أن الأردن تحديدا لم يعرف التمييز الديني لكون أرضه مهد المسيحية. وبهذه الصفة القومية الأكبر، كان زعماء الأردن يشاركون في أحداث المنطقة بدءا بمؤتمراتها وانتهاء بثوراتها.

وحتى نهايات القرن التاسع عشر, كانت أبرز المدن الأردنية عجلون والكرك ومعان. ومنذ العام 1878 عام وصول أول أفواج الشراكسة المهاجرين واستقرارهم في وادي عمان القفر الذي لم يكن يحوي سوى آثار ممالك وإمبراطوريات قديمة, بدأ ظهور عمّان كمدينة جديدة أصبحت منطقة جذب لسكان آخرين من المحيط العربي, فنمت بسرعة لتصبح مركزا تجاريا وسياسيا.

وعند قدوم الهاشميين في بواكير الثورة العربية الكبرى, مدفوعين أيضا بنزاع مسلح كان قائما مع آل سعود وباتت نتائجه تصب لصالح السعوديين, وجدوا في عمان ملاذا آمنا وبيئة أمثل لعاصمة حضرية يجتمع فيها ويجمع عليها سكان البلاد دونما أي منازعات.

فلم يكن لدى أي من الأردنيين في محافظاتهم ومدنهم الرئيسية أي مشكلة مع تحول هذه المدينة الحديثة نسبيا إلى عاصمة. والثورات أو حركات التمرد التي قامت بها بعض العشائر (العدوان والشهوان والشريدة), لم تكن ضد أهل عمان ولا جوبهت بهم, بل كانت موجهة ضد الأمير من طرف من اعتبروا أنفسهم أحق بحكم بلادهم, والتصدي لها تم من قبل القوات البريطانية.

وسرعان ما أصبحت لساحة الجامع الحسيني -باعتبارها قلب عمان- قيمة معنوية، مثلها مثل ميدان التحرير في القاهرة، فهي ساحة كانت تشهد أهم أنشطة البلد التجارية والسياسية واحتفالاتها العامة, بل إن جميع مزادات البيع العام كانت تجري فيها, وحتى أحكام الإعدام كانت تنفذ فيها (لحين سني طفولتي) يوم الجمعة الذي يشهد -لأغراض مختلفة- حضور أعداد غفيرة من الأردنيين من مختلف مناطق المملكة، بما فيها مناطق نائية في البادية.

وحين قرر زعماء الأردن عقد "مؤتمرهم الوطني الأول" عام 1928, أي بعد سنوات قليلة من قيام الإمارة, بمبادرة منهم ودون إشراك الأمير وحكومته, تنادوا إلى الاجتماع في عمان وتحديدا في أحد المقاهي المطلة على ساحة الجامع الحسيني. ومن المهم تسجيل حقيقة أنهم لم يأخذوا أي إذن رسمي من أي جهة لعقد اجتماعهم ذاك.

والميثاق الوطني الذي أصدره المؤتمرون حينها, ما زال يقف ليومنا هذا وثيقة تلخص مطالب الشعب المتحضرة المتقدمة لدرجة تصلح فيها أن ترفع الآن في الاعتصامات التي تجري كل جمعة عند الجامع الحسيني وفي مختلف مدن وقرى المملكة.

ومن هنا لا يستغرب أن تتحول عمان تلك (وهي ما أصبح يسمى الدائرة الثالثة في عمان) إلى أهم دائرة انتخابية على مستوى المملكة, بحيث تؤشر نتائج انتخاباتها على الخارطة السياسية للشعب الأردني. فلم يكن يجرؤ على خوض انتخاباتها سوى كبار سياسيي البلاد من مختلف مناطقها (إلى حين تغيير تدميري تعرضت له سنأتي إليه)، ولم تكن الحكومات تجرؤ على تزوير مكشوف فيها, ولهذا سميت "دائرة الحيتان".

ورمزية الدائرة الثالثة في عمان لم تأت اعتباطا, بل تجسدت في احتوائها تاريخيا على مقار السلطات الثلاث: الحكومة التي تنقّل مقرها ضمن تلك الدائرة تحديدا من شارع السلط إلى الدوار الثالث إلى الدوار الرابع في جبل عمان.. وقصر رغدان الذي بناه الشراكسة والشوام بعد قدوم عبد الله بن الحسين وتنصيبه أميرا على البلاد، ليكون مقرا له (ظل يسمى شعبيا "المقر" بدل "الديوان الملكي" الذي لا تزال مكاتبه في قصر رغدان).. ومقر البرلمان الذي تنقل من الدوار الأول إلى العبدلي موقعه الحالي.. ودار القضاء التي يقع بناؤها القديم والحديث أيضا في العبدلي.. وأخيرا قيادة الجيش -العمود الرابع الأساسي الذي تقوم عليه الدولة لكونه يحمي استقلالها وسيادتها- كانت بكاملها في العبدلي.. وبهذا تكون الدائرة الثالثة في عمان تشبه منطقة كابيتول هيل في واشنطن, والتي تحوي مقار كل السلطات ومعها البنتاغون وحتى مقر المارينز.. بفارقين مفصليين: الأول أن ما جرى للدائرة الثالثة ورموزها السياسية يستحيل أن يجري لكابيتول هيل، ولو جرى بعضه لانتفض الأميركان من نيويوك إلى كاليفورنيا إلى ولاية ألاسكا للدفاع عنها. والثاني هو ما أوجد الفارق الأول, وهو العزل والإقصاء والتغريب الممنهج لأغلب سكان المحافظات عن عاصمتهم عمان لتمكين فئة بعينها من الاستفراد بقرارات ومقدرات الدولة.

بداية تدمير رمزية عمان القصبة (الدائرة الثالثة) بدأ بتجاهل خصوصيتها الوطنية بتحويلها إلى مادة تجارية. وبدلا من رئيس بلديتها المنتخب من سكانها كأي مدينة, جرى استثناؤها وحدها من الانتخاب ومدت حدودها إلى أبعد مما تحتمله هوية المدينة, وذلك بغرض رفع سعر الأراضي تمهيدا للاتجار بها, وعيّن عليها من خارجها من لا ينتمي بتاتا إليها تحت تسمية "أمين عمان" و"أمانة عمان"، وهي تسمية أثارت الكثير من السخرية أو حتى التوظيف الأدبي الجاد الحزين لأن ما غاب عن التعامل مع عمان هو تحديدا الأمانة. والآن أصبحت محاكمة كافة أمناء عمان مطلبا إصلاحيا رئيسيا لأن ما فعلوه بعمان تجاوز الاستيلاء على أراضيها وبيعها بيعا جائرا, لقضايا فساد سياسي مالي أولويته تفرضه الرمزية السياسية لعمان القصبة.

فمن أمثلة هذا الفساد أن قيادة الجيش التي ظل مقرها في العبدلي منذ قيام المملكة ولعقد مضى, جرى ترحيلها إلى منطقة دابوق خارج قصبة عمان لأسباب تجارية تتعلق ببيع بخس لأرض القيادة لغرباء تحت تسمية "الاستثمار", فآلت كلها في العهد الجديد إلى شركات أبناء الحريري, في مشروع أوكلت إدارته إلى مؤسسة "موارد" التي استحدثت بصورة غير دستورية (مثل مؤسسات أخرى) لإخراج المال العام الضخم الذي تتصرف به من رقابة مجلس النواب.


وحجم الفساد الذي جرى في تلك المؤسسة والمقدر بالمليارات أوجب الاعتراف الرسمي "بفشل" كافة مشاريعها, تلاه وعد غير موثوق "بالتحقيق في أي شبهة فساد" شابت عملها.. كل هذا يتم بينما كانت تجري مطاردة مقار القيادة العامة للجيش -مرة أخرى- خارج دابوق التي ارتفعت أسعار عقارها, لتباع أراضي دابوق أيضا في صفقات تغرق في ما يجري الإصرار على أنه مجرد "شبهات" فساد!!

وإذا كانت قيادة الجيش هي التي أخرجت من الدائرة الثالثة, فإن إخلاء أخطر جرى منذ عقود لقبة البرلمان ومقر الحكومة معا, بانقلاب رسمي على مجلس نواب وحكومة منتخبين عام 1957, وإعلان الأحكام العرفية التي استمرت لأكثر من 35 عاما. وحقيقة أن آخر ثلاث سنوات منها واكبت وجود أول مجلس نواب عاد بانتفاضة أبريل/نيسان الشعبية عام 1989, وسكوت ذلك المجلس على استمرار الأحكام العرفية, بل وتكريسه محكمة أمن الدولة العسكرية العرفية محكمة دائمة بقانون يسمح لها بمقاضاة مدنيين, بعدما كانت محكمة مؤقتة تنعقد لمهام محددة بأمر إداري خاضع مصدره ومنفذوه لمحاسبة مجلس النواب لحظة رفع حالة الطوارئ.. هذه الحقيقة مؤشر على حقيقة الديمقراطية التي يزعم أنها عادت عام 1989!!

وإفراغ الحكومة ومجلس النواب من كل شرعية شعبية منذ العام 1957 تزامن مع تصنيف اعتباطي للمعارضة باعتبارها محصورة في ذوي الأصول الفلسطينية وفي الموالاة باعتبارها حتمية يولد ويموت بها كل شرق أردني. ومحاولات "المعارضين" الأردنيين منذ المؤتمر الوطني عام 1928 لوقف بيع أراضي المملكة باعتباره خطرا يتهدد السيادة ولا يجوز أن يبرر بأي منفعة تجارية, جرى الالتفاف عليه بتقسيم جزء من تلك الأراضي إلى واجهات عشائرية سهلت عدة أمور منها: الزعم بأن الحكم أعطى امتيازا للعشائر الشرق أردنية دون غيرهم, في حين تراجعت كل خدمات المحافظات النائية بحيث بقيت الدولة ذاتها تسميهم "الأقل حظا", رغم أن الأمر لا علاقة له بحظ بل بقرارات تهميش وإفقار وتجهيل, ينتج في النهاية بيعا رخيصا لذات الأراضي من ملاكها العشائريين.http://www.aljazeera.net/NR/exeres/0DEBD383-E409-4220-A9B2-6F2B4B5B3408.htm?GoogleStatID=1#

ولافت أن فئة متنفذة من العشائر آلت إليها أغلب تلك الأراضي قبل تحسينها بما يرفع سعرها، وهم ذاتهم من آلت إليهم المناصب باسم العشيرة ودونما حتى آليات انتخاب معاصرة. وأحدث نسخة من انتخابات كهذه نجدها في انتخاب رئيس مجلس النواب الحالي للنيابة ثم لرئاسة المجلس بالتزكية, وهو ما أنتج احتجاجا لا يزال خجولا من طرف عشيرته, واحتجاجا آخر صريحا وساخرا من بقية الشعب. وكل ما سبق سهّل تحويل العشيرة إلى كتلة صماء تخاطب فقط عبر من ينصّبون "شيوخا" عليها (العديد منهم بات ينصب بمرسوم رسمي ولا يحتكم فيه إلى التسلسل العشائري) بما يهمش دور أغلبية شابة مثقفة مؤهلة من أبناء العشائر.

وهذا يعيد تكريس منظومة نائب الخدمات العشائري والذي يلزم أكثر كلما انخفضت سوية الخدمات المقدمة لمناطق العشائر.. وكله يخدم تصوير أي احتجاج عشائري باعتباره احتجاجا معيشيا يجري عبره تسويق زيارة متعطّفة لمسؤول تنتهي بوعد إعطاء فتات الحقوق على شكل مكارم. أما رفع الصوت بالمطلب السياسي الأعلى فيبرر قمع القيادات الشابة بتواطؤ من القيادات المستهلكة التي أورثت العشيرة إقطاعا تجبي بعض ريعه على شكل منصب عام أو حصة في صفقة فساد.

وهذا غير الدفع باتجاه التنافس بين العشائر على هذه الأعطيات المحصورة بفئة, والتلويح لهم بمكاسب مقزّمة تتأتى من تفتيتهم لأقاليم أو محافظات, وتأجيج تلك الفئة المستفيدة من هذه التفرقة لصراعات قبلية عفا عليها الدهر وقودها الشباب المحبط المضلل، ليقال بأن البلد عشائري بمعنى متخلف وأنه لا عشيرة تتفق مع الأخرى, وأن هؤلاء الذين لا يتفقون على "كسر قرن عنزة" بحاجة إلى حَجّاج يأتيهم من خارجهم ليضبطهم.

ويصل تصديق هذه المقولة المكرّرة بإصرار أن يؤيدها نائب من القلة التي تأتيها أصوات على مستوى الوطن حتى حين لا تترشح!! ويصل النجاح في عزل أبناء كافة محافظات ومدن المملكة عن عاصمتهم حيث الحراك الواجب بشأن القرارات الكبرى, أن تدعو عشيرة كاتب قائد رأي مقدّر على مستوى الوطن حين تعمّد بلطجية الحكومة ضربه هو وابنه أمام الجامع الحسيني, ابن عشيرتهم هذا للعودة إلى مدينته في الجنوب ليعتصم وتضمن له أن لا يد ستجرؤ على الامتداد إليه هناك!! لماذا يغادر هو عمّان لصالح بلطجية؟ أليس هذا الكاتب سياسيا بحجم الوطن؟ أليست عمان عاصمة ذلك الوطن؟


يجدر التذكير هنا بأن الحكومة التي وضعت البلد على منزلق فساد مجنون أوصله إلى حالة استدعت الهبة الشعبية الجارية لإنقاذه, مهدت لهذا الدمار بتمزيق خريطة الدائرة الثالثة, ولممارسة تزوير غير مسبوق فيها أوصل إلى مقاعد "الحيتان" من جعلوا الدائرة الثالثة -لأول مرة- تهبط بسوية مجلس نواب هابط أساسا. الحيتان الذين رفعوا اسم الدائرة الثالثة لم يكونوا عمانيين جميعا.. والآن يحجم عن عمان الحيتان ويتكالب على مقاعدها ومناصبها صغار اللصوص قدراً وإن بلغت سرقاتهم مئات الملايين والمليارات.

هناك من يريد أن يقنع العالم بأن أبناء المحافظات فقراء الرعية ويطلبون كسرة خبز ورقعة ثوب من سادتهم ولا شأن لهم بالسياسة.. ويتيسر لهم هذا الزعم حين يقنعون أبناء المحافظات بأن عمان ليست لهم, فيهتف أبناء المحافظات تأييدا للقاهرة ولنجدة ميدان التحرير أكثر مما هتفوا لعمان وللأردنيين من شتى المنابت والأصول, المستفرد بهم في ساحة الجامع الحسيني قلب عاصمة الأردن.

لم يكن عبثا اندفاع المصريين من كل محافظاتها ومن عمق صعيدها إلى ميدان التحرير, وليس عبثا محاولة نظام مبارك إيقاف سير القطارات رغم كونها عصب الحياة في مصر، فلكل فعل مقرّه, والفعل على مستوى الدولة يجري في عاصمة الدولة, وإن سقطت العاصمة تسقط الدولة.. هي تسقط منذ أمد في الخواء.. هذا صحيح، ولكن خلف الواجهات الخاوية قوى تنتظر لملء الخواء المتعمد, وهي تزحف منذ أمد أيضا, وزحفها لن يتوقف عند عمان ولا دون أي محافظة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق