السبت، 5 مارس 2011

اللامركزية في الثورات الحديثة


أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com

مما كشفت عنه الثورات الأخيرة التي اندلعت في العالم العربي أن ولادة الثورات لم يعد بالصورة التقليدية النمطية القائمة على فكرة القائد الملهم والبطل الفذ الذي تلتف حوله الجماهير ويوجهها كيفما يشاء، ولكنها ثورات لا مركزية ممتدة أفقياً تبدأ بفكرة في رأس أحد الناس، وقد يكون هذا الإنسان مغموراً لا يعرفه أحد فيلقي بهذه الفكرة عبر ثبج البحر الالكتروني ليتلقفها الناس ويتقبلوها بقبول حسن وتبدأ في الانتشار والتوسع بمقدار ما تلامس همومهم وتطلعاتهم، إلى أن تتحول إلى تيار شعبي جارف لا يمكن لنظام سياسي التغلب عليه أو احتواؤه..
تبين في ثورتي مصر وتونس ومن بعدهما ليبيا أن صوت الشعب كان أقوى من كل الأحزاب والأطر وأن هذه الثورات كسرت الجمود وتجاوزت المعارضة التقليدية حتى أنه لم يكن بوسع قوى المعارضة حتى الوازنة منها سوى أن تلحق بهذه الثورات قبل أن يتجاوزها المجتمع..
لقد تجاوزت الجماهير بحسها الجمعي كل الأطر الجامدة التي تحولت إلى عوامل إعاقة لحركة المجتمعات وهي التي يفترض أن تقود المجتمعات في صناعة التغيير..
هذه اللا مركزية التي كشفت عنها الثورات الحديثة في العالم العربي هي تطور إيجابي ينسجم مع الاتجاه التقدمي لحركة التاريخ البشري، فهي تعني أن الثورات صارت أكثر مصداقيةً وتعبيراً عن الحاجات الحقيقية للمجتمعات، وأكثر استعصاءً على الاحتواء والسيطرة عليها، وأكثر قوةً أيضاً..
فأما أنها أكثر مصداقيةً فلأنه يستحيل أن تكون مصنعةً في الأروقة السرية أو موجهةً من أطراف خارجية، فلو كانت كذلك لما كان لها هذا الانتشار والتمدد في المجتمع، وهذا التمدد لا يكون إلا حين يلامس حاجات حقيقية للمجتمع، فالعامل الحاسم في هذه الثورات لم يعد هو شخص القائد، ولكنه الفكرة ذاتها، ومدى قوتها وتقبل المجتمع لها، فبإمكان أي شخص أن يطرح أي فكرة على الانترنت، ولكن المقياس هو تفاعل الجماهير مع هذه الفكرة، ولا يمكن للجماهير أن تتفاعل إلا مع فكرة تلامس جرحاً حقيقياً وحاجةً ملحةً، وهذا يسقط مزاعم المستبدين ويفضح أسطوانتهم المشروخة حول نظرية التآمر الخارجي، فحتى لو سلمنا بأن هناك جهات خارجية تدعم الثورات فهذه الجهات لا يمكن لها أن تطرح فكرةً إلا في وسط اجتماعي مهيء لتقبلها، وإلا فإن هذه الفكرة ستموت وتتلاشى، ولا يزيد دور العامل الخارجي في حال وجوده إلا أنه يسعى للاستفادة مما هو موجود فعلاً داخل المجتمع.
إذا كان المثل التجاري يقول إن الزبون دائماً على حق، فإننا بالقياس نقول إن الشعوب دائماً على حق لأن الشعوب لا يمكن أن تنزل إلى الشارع إلا حين يفيض الكأس ويصل التوتر الاجتماعي إلى مداه فتنفجر الثورة من كل شارع وحارة، وحين نتحدث عن ثورة شعبية شاملة فإننا لا نتحدث هنا عن رأي ورأي آخر بين الشعب والحاكم، ولا يحق لأحد أن ينتقد الشعوب، اللهم إلا القذافي فهي حالة شاذة، وإن عبر صراحةً عن منطق الطغاة المستبدين.
كون الثورة لا مركزيةً يجعلها أقوى وأكثر تجذراً، فعدم وجود قيادة مركزية يصعب الأوضاع على القوى الظالمة فلا تستطيع السيطرة عليها، ولا تجد عنواناً محدداً تحمله المسئولية وتوجه الضربات إليه فهي في مواجهة شعب كامل، كما أنه يقويها لأنه ينمي الشعور الوطني لدى كل أفراد الشعب، ويخلق إحساساً لدى كل واحد بأن إنجاح هذه الثورة هو مسئوليته الخاصة، وأن كل واحد هو قائد في ثغر من الثغور وعليه أن يبدع من الوسائل والأفكار ما يعود بأفضل النتائج، كما أن اللا مركزية توزع العبء على الجميع، فلا يكون ملقىً على عاتق شخص واحد ملهم، وقيادة الثورة أو أصحاب فكرة انطلاقها لا يزيد دورهم عن كونه بث الروح وتوجيه النصائح العامة وإيقاظ الشعور الوطني لدى كافة مكونات المجتمع.
في الثورة اللامركزية يتحرك الجميع وفق خطوط عامة متفق عليها، دون أن يكون على القيادة أن تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، فالإجراءت التنظيمية متروكة لأصحاب كل تجمع سكاني حيث يتم انتخاب لجان شعبية تتولى أمور التنظيم والتوجيه في منطقتها، كما أن الثورة اللا مركزية تراهن على الذكاء الجمعي للجماهير، وهذا ما أثبتته الثورة المصرية حيث كانت الجماهير تتحرك كأنها شخص واحد بتلقائية، وكان المشهد العام يتميز بانسيابية رائعة، فكنا نرى تحركات في آن واحد في كل أنحاء الجمهورية الواسعة وكأن عقلاً واحداً هو الذي يفكر ويخطط، والحقيقة لم تكن كذلك، ولكنه العقل الجمعي والحس العام، مثال ذلك تشكيل اللجان الشعبية، والموقف من الجيش، فهذه الأمور لم تكن بحاجة إلى إرشادات عليا، ولكن الجماهير بوعيها العام كانت تتصرف في نفس الاتجاه..
أقتبس كلمةً للناشط المصري وائل غنيم وهي أنه لا يوجد في الثورة فارس يمتطي جواداً يقود الجماهير، ولا يوجد فيها بطل ملهم، وهذه الكلمة تدل على إدراك للتطور التاريخي الذي نقل الثورات من المركزية إلى اللامركزية، فالثورات صارت أكثر صدقاً في التعبير عن المجتمعات لأنها أكثر توسعاً وانتشاراً، والأبطال لا يمكن لهم أن ينجحوا بفرض إرادتهم إلا إذا كانت منسجمةً مع إرادة الجماهير، وإلا لما صاروا أبطالاً، والثورة تفرز من داخلها وبشكل تلقائي من يعبر عنها، وإذا تأملنا حالتي كل من محمد البرادعي ووائل غنيم فإنه يمكننا أن نكتشف الفرق بين أن يأتي شخص من خارج السياق الاجتماعي ليصبح قائداً، وبين أن يتم إفرازه عفوياً أثناء الحراك الثوري.
ودور البطولة الرئيسي في الثورات الحديثة تحول إلى التقاط المزاج العام للمجتمع والمبادرة بالتعبير عنه، وهذا التطور ينبهنا إلى ضرورة المراهنة على المجتمعات والعمل على تقويتها وتحريرها من كل الأنماط الجامدة والقوالب الجاهزة.
إن تأطير المجتمعات في قوالب جاهزة أيديولوجية أو سياسية يميت هذه المجتمعات ويقتل ذكاءها الجمعي، والمجتمع هو أكبر من كل هذه الأطر الجاهزة، لذا فإن من الضروري العمل على تقوية المجتمع المدني، وتحريره من الأنماط التقليدية حتى يكون مجتمعاً نابضاً بالحياة يفكر بطريقة سوية يمكن المراهنة عليه في صناعة التغيير.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق