بسم الله الرحمن الرحيم
أسرى الذكرى
سأغمض عيني على ذكرياتي
وأحيا بها فهي كل حياتي!
ما أصعب تلك الأيام.. تتنافس أصوات القصف وسيارات الإسعاف وأخبار النعي أيها يطرق أذنك أولًا!
والواعية لا تستطيع مواكبة الأسماء التي ترد تباعًا من أحباب وإخوان وأصدقاء وجيران وزملاء ورفاق درب!
الحياة صعبة.. مجرد أن تحيا كان مقاومة وجهادًا! أن تأكل أو تشرب أو تنام أو حتى تقضي حاجتك!
سادس أيام الحرب، بين الظهر والعصر، قلت لها: أريد أن أجمع ساعتي نوم .. إياك أن توقظيني مهما كان! أريد أن أنام!
نمتُ وكنت أشعر بالقصف في جميع أنحاء مخيمنا، ودارُنا تميد وتترنح مع كل ضربة، كأنما ترتعد خوفًا أو تتضامن مع ما يقصف من بيوت!
لم يطل نومي، عادت أم إبراهيم لتوقظني، قالت لي: أمك بالداخل .. تريد أن تسلم عليك!
قلت: ألم أنبهك.. يغفر الله لك!
قالت: إن عمتي قالت بنص العبارة: "تعبان مش تعبان .. قوميه! بدي أسلم عليه"!
قلت في نفسي: يا فتى! الدنيا حرب.. لعل الليلة القادمة تكون لك الأخيرة.. قم سلم!
فقمت.. سلمت يرحمها الله وقبلتني قبلتين، لن تنساهما وجنتاي حتى يذوبا في التراب!
قاسمتها كوب الشاي، وتبادلنا الحديث.. حدثتها عن غسان وجهاده وإصراره على الرباط أيام الحرب كلها.. فترضت عليه ودعت له بخير.. ثم قلت لها: طار النوم من عيني.. ونفد الغاز لدي .. سأخرج لشراء "بابور"..
قالت: الله يرضى عليك يما.. بدي إياك هيك.. ماشية بغاز أو بكاز!
فكانت آخر نظرة نظرتُها من أمي يرحمها الله!
في طريقي مررت بعمي .. سبقني في نية شراء "بابور" فأحببت أن نشتري سويًا..
قال لي: اجلس! انتظرني دقائق..
وبينا أنا جالس أنتظره سمعت قصفًا قريبًا..
نظرت من الشباك وبيتنا يبعد عن بيت أهلي خمس دقائق.. فرأيت القصف ناحيتهم.. أحثثت خطوي نحوهم وفي بالي فكرة واحدة:
يجري علي ما يجري عليهم!
كان قصفًا جزئيًا بصواريخ "الزنانة"! ولما صرت بعيدًا عن البيت نحوًا من مائتي متر ارتجت الأرض تحت قدمي ودوى صوت انفجار لم أسمع له من قبل مثيلًا.. وعلا الحارة سحابة من غبار كأنما هبطت من السماء!
انقبض قلبي وصرت أجري .. لم أكن أحسنت ارتداء ثيابي .. فمرضت من تلك اللحظة .. وسرت في جسدي الحمى!
لما صرت على مقربة من بيت أهلي عثرت بمحمد.. فقلت: الخبر؟
قال: والدي في المنزل.. أهلي كلهم فيه!
كلمته لحظة القصف.. قال لي: "احنا مش طالعين.. احنا مستشهدين.. أشهد ألا إله إلا الله.. وأن محمدًا رسول الله"!
أسرعت جريًا نحو المنزل.. وكان الناس على أطراف الشوارع المؤدية إليه ينظرون ولا يقدمون!
فدخلتُ وخلفي الناس.. كنت أبحث عن حي! قلت في نفسي: إن عثرت بأحدهم حيًا فكلهم أحياء وإن عثرت به شهيدًا فكلهم شهداء! لا يتركون بعضهم!
فلما درت حول المنزل.. وجدت والدي! محطم الرأس ممددًا بين الركام بعضه فيه وبعضه خارجه!
أمسكتُ بيديه.. لم يبردا بعد! شعرت بيديه يحتضنان يدي! يدفئان روحي! ويكلماني!
أما أنا فكان جوابي: الله يسامحك يابا!
والناس من حولي يهتفون: والدك ليس بالمنزل.. وأنا أحلف لهم: "والله هادا أبوي"!
رفعت يده اليمنى.. فإذا في حجره أسامة! آه يا أسامة الصغير لم يفرق بينكما الصاروخ! كان والدي يقبض على رأس أسامة بيده.. وبين رجليه رجلا أسامة!
تناول الناس الجثمانين فقلت لهم: أروني وجه الصغير! إي وربي لقد كان أسامة! ولم تمنع يد والده الكبيرة شظيتين أن تخترقا جبينه! فأغرقتاه بالدم!
إلى جواره كانت آية! كالبدر تمامًا وجمالًا! لم تكمل الثانية عشرة فلم تلبس الجلباب والحجاب! لا عجب.. رباها والدها أن تكون كبيرة! قلت: الله يرضى عليك يا أختي يا آية!
وإلى جوارها أمها.. كان حجابها قد انكفأ فغطى وجهها.. بيدي والله كشفت عن وجهها حتى أرى من تكون القتيلة؟! فكأنما أضاء.. وكان خداها طريين كأنما هي نائمة! قلت: الله يرحمك يا خالتي!
في حجرها كان أسعد ذي العام الواحد! لم يفطم بعد من حليب أمه.. ولا من دمها!
على شرفة المنزل المقابل رأيت جثامين أطفال! كانت الجثامين في المكان أكثر من أتفحصها قبل أن تنقل للمستشفى.. فقلت: خذوني إلى المستشفى.
وهنالك عثرت ببعض من لم أر! وقفت على باب ثلاجة الموتى.. وكانت الجثامين تفد إليها لا تنقطع.. وما فيها غير حبيب!
على البعد رأيت الناس يحملون جثمانًا .. يسيرون به نحوي أو نحو الثلاجة! قلت في نفسي: هذه أمي.. إنها والله أمي.. وتساءلتُ ألم أتركها في بيتنا! كيف وصلت دار أهلي؟!
فلما وصلوا باب الثلاجة.. قلت: أريد أن أتعرف عليها.. إي وربي كانت أمي.. بجلبابها وحجابها وتحت الجلباب جلابية.. وتحت الجلابية بنطال.. وتحت البنطال بنطال! قلت: رحمة الله عليك.. سترك الله في الدنيا والآخرة! حية وميتة!
كل ما مر على قلب آدمي من مشاعر الاستغراب والعجب وتكذيب ما يرى الناظر لم يكن كمثل ما حل في قلبي، قلت في نفسي: أيحدث مثل هذا في الدنيا؟!
أيحدث مثل هذا!
هنالك كنت أبحث عن حي.. فلم أجد.. فقلت لمن حولي: أريد بلالًا!
طيلة عمري كنت أحسب أنني أَجلَدُ من بلال وأشد! يغفر الله لي! وعند الشدائد تتميز معادن الرجال! لقد رأيته.. أكبر مني كما كان دائمًا وأقوى كما لم أتوقع..
احتضنني كوالدٍ وقال لي والدموع تخنقه: الرجال مواقف! وقد كان والدي رجلًا! عاش رجلًا وكذلك مات!
لكنه لما فُتح باب الثلاجة أمامه عَقرَ فما أقلتْهُ قدماه.. وقعد على بابها لا يقوى على القيام!
ورأيت محمدًا.. لم أر في جسده الضخم إلا وجه طفل يتيم!
اشتعلت في جسدي الحمى! وشعرت بالألم في قلبي.. قلبي الذي في صدري! وحينها فقط .. عرفت تفسير قوله تعالى: "وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا"! إي وربي عرفت تفسيرها أو هو عرفني!
أخذوني إلى دار سيدي (جدي لوالدي أبو زياد رحمه الله) وفي المتر الأول من باب العمارة كان كل أهلها ينتظرون الخبر! فلما رأوني قالوا:
إيش يا براء؟
قلت: كل أهلي ماتوا!
لم يصدقوني.. قالوا: مين يعني؟
قلت: كل أهلي.. كلهم.. كلهم!
قالوا ثانية: مين؟ فقلت فيما يشبه الهذيان: أبوي مات! إمي ماتت! غسان مات! عبود مات! مين بدكم كمان؟!
لم يصدقوا وتهامس القوم: إنه يهذي!
ليلتها تكلمت في الجزيرة.. قلت للناس: في أي عالم نعيش.. وإلى أي أمة ننتمي .. حتى تهدر دماؤنا بهذه الطريقة؟
وجوابها: في عالم حقوق الإنسان نحيا.. وإلى أمة قال نبيها: "لا يُطَل دمُ مسلم قط"! (يعني: لا يُهدر) ننتمي!
بت ليلتها .. الدموع تحرق وجهي.. والعبرات تخنقني ومن حولي زوجتي وولداي.. لأول مرة يراني إبراهيم أبكي.. بكاء ليس كالبكاء!
كان الطفل مذهولًا.. يسألني بكل براءة: ليش بتصيح يابا؟
وأنا أجيب بسذاجة: عشان أهلي ماتوا!
ثاني يومٍ قالت لي ولاء: إياك أن يدفن أهلي دون أن أودعهم!
قال لي الناس: لا ينبغي أن تسمع كلامها! لا يحسن بها أن تراهم! غير أنني آثرت أن أسمع لها والأمر إن تم فلا مرد له! ولا خط رجعة!
فوعدتها وكنت عند وعدي!
وفتحت لها باب الثلاجة على ستة عشر إنسانًا هم أحب الناس إليها وأقربهم إلى نفسها والد ووالدة وخمسة إخوة وست أخوات كلهن أصغر منها تركنها وحيدة كما كانت بداية فهي كبرى البنات! وثلاث خالات كن أمهات!
أذكر إذ أعرفها بهم وهي بهم أعرف! وأقول: هذه أمي يا ولاء وهذا عبود.. أترين أسعد؟! إنه نائم! انظري آية كأنها صبية كبيرة أو عروس!
فما سمعتها قالت كلمة لا ترضي الله! بل ما كان قولها إلا:
لا أقول إلا كما علمتني أمي: الحمد لله ويا الله الصبر!
وخرجت بها من الثلاجة تتهادى متكئة علي والناس من حولنا ينظرون! هذه تقول: الله يصبركم يا خالتي! وآخر لا يدري ما يقول أو يفعل!
صغرت من حولي الأشياء لحظتها فما كنت أرى إلا ولاء.. أو عيني ولاء قد بدتا من النقاب محمرتين باكيتين! كانتا والله أكبر من أي شيء في العالم لحظتها! بل أكبر من العالم.. لم أر غيرهما.. لم أر!
بعد ساعة كانت الجنازة.. وفي ساحة المسجد المهدوم اجتمع الناس.. رأيت أبا مصعب فوق سيارة الإذاعة رغم الخطر الشديد يخطب في الناس.. أراه! عيناه الحزن ووجهه الغضب ولا أسمع من كلامه شيئًا.. غير أنني أذكر أنه قال: إن شيخنا هو من أشعل الانتفاضة الأولى!
وكان يوم جمعة فخطبنا أبو البراء، فلم أع مما قال شيئًا غير أنني أذكر أنه لما كان يتحدث عن الوالد وهو بين يديه مسجًى يقول: كان شيخنا! فلفتني كلمة كان! وحمدت للرجل أنه يقول شيخنا مع أنني أعلم أنه قرينه وزميله، وقد قال لي والدي مرة: كان أبو البراء أعلانا في الدرجات!
صغرت الدنيا ثانية أمامي.. ولم أر إلا جثامين أهلي! عن يميني أمي وعن يساري أبي وبين يدي عبود وعلى مقربة غسان ومن حولهما حليمة وريم وغير بعيد آية ومريم!
ندبتهم كما كان يفعل العرب! كان مما قلت: هذا عبود .. كان والله مؤدبًا .. كان مطيعًا!
وهذه حليمة عمرها خمس سنين.. كانت والله مدلعة! وكانت تخاف! أتراها خافت الصاروخ! وقلت: هذه ريم تصغر حليمة قليلًا! كانت ذكية مدبرة.. تفهم كالفتاة الكبيرة!
أشفق علي جدي أبو ماهر! وقال لي: نعرفهم يا براء!
كنت أنتقل بينهم لا أصدق أنها نظراتي الأخيرة! ولا أقنعُ أن تكون قبلاتي الأخيرة! احتضنت والدي.. وقبلت يده.. مرغت وجهي عليها.. بللتها بدموعي.. وما أبعدني عنها إلا الناس!
كانت باردة يابسة ولطالما قبلتها دافئة ناعمة!
مر عامان..
وكلما خلوتُ بنفسي.. واستعرضت ما يسميه الناس شريط الذكريات لم أر إلا نظرات أمي وخطواتي نحو بيت أهلي ويدي والدي الدافئتين وليس فيه النفس! وجبين أسامة المضرج بالدم.. وحجاب آية ووجه أمها وجلباب أمي واحتضان بلال وكلمات ولاء وبكاء محمد وذهول جدتي أم زياد و….
مر عامان .. وشيءٌ في لم يغادرني خلالهما ولو للحظة.. حين أقرأ .. حين أكتب .. حين أسمع.. حين أحضر.. حين أحاضر.. حين أَدرُس.. حين أُدَرس.. حين أفرح .. حين أحزن.. حين أضحك.. حين أبكي.. حين أفتر.. حين أقوم.. حين أصوم.. حين أصلي.. حين ألهو.. حين أعمل.. حين أفرغ.. حين أجالس .. حين أخلو .. كل حين..
شيء يهتف في.. يصرخ في أعماقي:
مهما فعلت وأين ذهبت ومتى عشت .. لست إلا هذا..
هذا الثاكل!
براء نزار
1/1/2011
بلال ومحمد وولاء = الباقون من ذرية نزار ريان.
أم زياد = جدتي لوالدي.
أبو ماهر = جدي لأمي.
أبو مصعب = أ. فتحي حماد.
أبو البراء = د. عبد الرحمن الجمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق