الأحد، 2 يناير 2011

غزة: بناء البشر قبل الحجر


بقلم : م. محمد يوسف حسنة

كنت أراقب طفلاً يساعده بعضٌ من أقرانه في تجميع لعبة التركيب لبناء شكل هرمي، كان مسروراً بصحبة أصدقائه ومعاونتهم له بلعبته الجميلة الجديدة، إلا أن ورغم محاولاتهم تعثرت جهودهم وانهار الشكل وبكى الطفل، هدّئتُ من روعه وأمسكتُ بلعبة التركيب وبدأت أعيد الترتيب، وأعلمه قواعد البناء فبدء ينظم الشكل ويقوي قاعدته قبل أن يرتقى درجة أكبر حتى أخرج شكلاً هرمياً جميلاً، سعد الطفل وتعالت ضحكته وزملائه فرحاً بما أنجزوه.

لا أعلم لمَ ذهبتُ بمخيلتي بعيداً حتى تمثلت لديّ غزة كأنها الطفل الباكي، وتخيلت الأطفال حوله تلك المؤسسات والجهات الإنسانية التى ترسل الأموال لغزة تعاطفاً معها، أو تكفيراً عن ذنب حكوماتهم بتركها وحيدة عرضةً للاعتداءات المتكررة من قوةٍ لا ترحم وجبروت متغطرس لا يعرف للإنسانية معنى ويدمر في كل اعتداء ما تبقى من معاني الآدمية والاحترام بين البشر.

ولكم وجدت أن تنمية غزة وإعمارها متعثرة -رغم الجهود- تعثر محاولة الأطفال بناء شكلهم الهرمي، ولم أحتاج للكثير من الجهد لأستنتج أن الخلل الذى ما زلنا واقعين فيه هو غياب الاستثمار في القاعدة التي ينطلق منها أساس بناء غزة وتنميتها وتفرعنا باتجاه أمور -رغم أهميتها- إلا أنها ليست القاعدة التى يُستند عليها في البناء وتحقيق التنمية.

حاولت التمعن أكثر، فوجدت أننا نتلقى أموالاً تُنفق عبر مشاريع إغاثية تبقينا في خانة المستهلك والحاجة للمانح وشروطه التى لا فكاك منها، ووجدت أن المشاريع التنموية بدأ يُطرق بابها حديثاً فتصعد كالنجم في بداية الافتتاح ثم ما تلبث أن تتهاوى كنجم آفل يخفت ضيائه تدريجياً ولا يعود للصعود.

دققت في الصورة أكثر علّ البحث يسفر عن إيجاد القاعدة الأصلب والتى يُركن إليها في احداث التنمية والتغيير، فرأيتُ أننا نركِّز على بناء الحجر قبل البشر، مع أن الثابت في بناء الحضارة وإعمار الأرض تطوير البشر وصقل العقول قبل أو بالتزامن مع الحجر.

فما معنى أن نطلق نداءات الاهتمام ببناء المدارس ودعوات البناء لأروقة التعليم الجامعي وتحسين تلك البيئة وننسى جودة التعليم وتطوير الكادر الأكاديمي الذى يُسند له مهمة تخريج الجيل وصقل العقول وتوجيه وحشد الطاقات بما يخدم بناء دولة المؤسسات ويساهم في احداث تنمية بشرية حقيقية؟

وما معنى صرخات الإغاثة المدوِّية لتزويد المستشفيات بأجهزة طبية حديثة وبناء مستشفيات جديدة، ونعجز عن إيجاد من يصلح الأجهزة المتوافرة حالياً ونشتكى ضعف خبرة الكادر الطبي؟ فمن سيدير الأمر ويمسك بالدفة ويوجه الفريق إن لم يكن هنالك قيادة وإن لم يكن هنالك من الأساس فريق مؤهل؟

لمَ نجد سهولة في تجنيد الأموال لمشاريع إغاثية تبقينا رهن حالة الاحتياج ونعجز عن تجنيدها لصالح بناء البشر؟ فحتى اللحظة، مازالت مشاريع التنمية البشرية رهينة الأدراج وبقيت الأفكار محجوزة في العقول لا يُفرج عنها إلا عبر موازنات محدودة ومشاريع لا يُرى لها أثر وكأنها رفع عتب لا لإحداث تنمية حقيقية.

وما معنى أن تبقى محاولاتنا الذاتية لتنمية البشر مرهونة بطرق تقليدية عفا عليها الزمن وبمدربين وصل العمر الافتراضي لهم في مجال التدريب نهايته؟ ولمَ تبقينا المؤسسات تحت رحمة مدرب حديث التجربة فقط لأنه سيساعدها في توفير بعض من بنود موازنة المشروع؟

أعيد وأكرر نقطة في غاية الأهمية، علينا أن نؤمن بأن تطوير العقول وبناء البشر يجب أن يتزامن مع بناء الحجر إن لم يسبقه في بعض الأحيان فالمتابع للتاريخ يعرف جيدا أن الأفكار العظيمة والمخترعات التي غيرت وجه البشرية ولدت كأفكار في العقول أولا ثم تحولت الى واقع ملموس يؤثر في نمو المجتمع.

بالنتيجة لذلك إذا رسخ الإعتقاد لدينا بأننا يجب أن نركز على بناء البشر قبل الحجر، سنجد من السهولة بمكان إقناع المانحين الذين يغيّبون بناء البشر قصداً أو دون قصد، شرط أن تتخلى المؤسسات الأهلية عن إهمالها لهذا الجانب المهم نتيجة قلة المانحين الذين يلامس اهتماماتهم هكذا مشاريع.

وعلينا أن ندرك بأن غزة إن ما أريد لها النجاح والتقدم والازدهار، فعلينا ببناء الانسان الذي يتمتع بكامل حقوقه دون أن يخشى ملاحقة خارجية أو داخلية وألقول رأيه أو ممارسة حق من حقوقه، إنسان يؤمن بأحقيته في البناء وأن له دور مهما صغر شأنه، وبناء يأخذ بعين الأعتبار التوازن بين الأصالة والمعاصرة ويحاول الاستفادة والإنخراط قدر الإمكان من المنتوجات الإيجابية للحداثة.

علينا أن نخرج في بناء الإنسان من الإطار التقليدي والاستثمار الروتيني، هنالك حاجة فعلية للبدء بتأسيس مشروع وطني يهتم بالموارد الفلسطينية البشرية منها والمادية، يقع على عاتقها التخطيط والإشراف والتنفيذ بما يضمن النجاح ولا تتعثر خطواتها بالمعيقات والظروف المحيطة.

غزة وبناء الانسان فيها، يحتاج لتضافر الجهود وتحتاج قبل هذا وذاك لمن يوجه تلك الجهود وينظم العمل وتكون الفكرة لديه مختمرة لا أن يبقى يحاول وتتعثر محاولاته.

فهل سنسمع ضحكات غزة يوماً وأنصارها من المؤسسات الانسانية في العالم كما سمعت ضحكات أطفال نجحوا في بناء شكلهم الهرمي ؟ أنتظر وسأحاول فمن سيحاول معي ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق