تفكيك مصر طائفياً
عبد الباري عطوان
2011-01-02
عمليات تفتيت وتفكيك الدولة 'القطرية' العربية لم تعد تقتصر على الجغرافيا،
مثلما هو حادث حالياً في السودان واليمن والعراق،
بل بدأت تمتد الى الديموغرافيا ايضاً،
وبهدف تمزيق النسيج الاجتماعي والبشري،
من خلال اتباع أساليب الاغراق في حروب او مواجهات طائفية او عرقية،
والعمل الاجرامي الذي استهدف كنيسة الاسكندرية،
وراح ضحيته اكثر من عشرين شخصاً،
ليلة رأس السنة لا يمكن النظر اليه الا من هذا المنظور.
مصر مستهدفة اكثر من غيرها،
لانها دولة محورية في العالم العربي،
وتشكل الثقل البشري والحضاري،
وعنصر التأثير الأقوى في محيطها،
ولهذا تتعاظم محاولات الاجهاز عليها،
بعد تكبيلها بمعاهدات سلام مهينة اخرجتها من محيطها،
وجمدت دورها القيادي والريادي،
وجعلتها تكتلاً بشرياً ضخماً بدون قضية وطنية حقيقية في منطقة تعتبر الاكثر التهاباً وغلياناً في العالم بأسره.
ردود الفعل الرسمية التي تنطوي على الكثير من السذاجة السياسية والفكرية،
كشفت عن مصدر الخلل الكبير الذي ينخر جسد المؤسسة الحاكمة،
ويدفع بالبلاد الى سيناريو عنف مرعب لا يمكن التكهن بنتائجه لما ينطوي عليه من اخطار جمة.
فالحكومة المصرية،
سارعت،
وبعد ساعات محدودة من وقوع التفجير،
وقبل بدء اي تحقيقات،
بتصدير الازمة الى جهات خارجية،
وتوجيه اصابع الاتهام بطريقة مباشرة او غير مباشرة الى تنظيم 'القاعدة' بالوقوف خلف هذه الجريمة.
تنظيم 'القاعدة' او بعض الجماعات المحسوبة عليه،
قد لا يكون بريئاً من مثل هذه الاعمال،
بل واعلن مسؤوليته عن ما هو اكبر منها (هجمات الحادي عشر من ايلول/سبتمبر) ولكن هذا التنظيم،
حتى لو كان يقف خلف هذا العمل الاجرامي،
فانه ما كان لينجح في تنفيذه بدون ادوات محلية،
وفي ظل مناخ عام يسهل اعماله ومخططاته.
لا بد من الاعتراف،
اعتراف النخبة الحاكمة في مصر على وجه التحديد،
بان الازمة داخلية صرفة ومتفاقمة،
فالبلد يعيش حالة من الاحتقان الداخلي،
والشحن الطائفي، تقابلهما قراءة خاطئة،
وغير علمية،
سواء بطريقة متعمدة،
او بسبب الجهل،
لمعرفة اسباب هذا الاحتقان،
لوصف العلاج العملي الناجع على المستويين القصير والبعيد المدى في الوقت نفسه.
***
الازمة في مصر ثقافية وسياسية واقتصادية وامنية وتعليمية واعلامية،
بل واخلاقية ايضاً،
ومحاولة كنسها وإخفائها تحت سجاد سرير السلطة هي من الاسباب الرئيسية لتفاقمها.
الاختراق الحقيقي لمصر ليس من قبل الجماعات المتطرفة فقط،
وانما بالدرجة الاولى من قبل العدو الاسرائيلي،
ففي الوقت الذي نسيت فيه الحكومة المصرية امنها الداخلي،
وركزت طوال السنوات الثلاثين الماضية على حماية الامن الاسرائيلي،
حتى لو وصل بها الامر الى توظيف الجنود المصريين لتأمين الحدود الاسرائيلية باطلاق النار بهدف القتل على المتسللين الافارقة الباحثين عن لقمة خبز،
كانت اسرائيل في المقابل ترد الجميل الى مصر بزرع شبكات التجسس لاختراق الامن القومي المصري،
وتحريض دول منابع النيل في العمق الافريقي لتفكيك معاهدات توزيع مياهه،
وتهديد الامن المائي المصري.
فعندما تزوّر الحكومة المصرية الانتخابات في وضح النهار،
وتمارس عمليات اقصاء سياسي فاضح لقوى المعارضة الاخرى المؤمنة بالنظام،
والمتعايشة معه،
والرافضة لاساليب العنف كأداة للتغيير،
والمتمسكة بالحوار وأدب الخلاف تحت قبة البرلمان،
فان عليها ان تتوقع الاسوأ.
فقمع المعارضة واخراجها بطريقة مهينة من العملية السياسية،
وابعادها عن ممارسة حقها الدستوري في المشاركة في دوائر الرقابة وصنع القرار،
ستؤدي حتماً الى نزول بعضها الى تحت الارض،
والعمل في الظلام.
لقد نسي دهاقنة النظام ومنظروه في مصر،
ان العنف الطائفي والسياسي كان موجوداً في البلاد قبل ظهور تنظيم 'القاعدة' بعقود،
بل لا نبالغ اذا قلنا ان هذا التنظيم وصل الى ما وصل اليه بسبب سيطرة العنصر المصري على مقدراته،
وتحويل مساره العقائدي والايديولوجي الوجهة التي نراها حالياً.
فالقيادات العسكرية والفكرية في تنظيم 'القاعدة' هي مصرية بالاساس،
والنواة الاصلية لجماعات استأصلها النظام،
مثل حركة الجهاد الاسلامي،
والجماعة الاسلامية،
والتكفير والهجرة،
ولم يتحول تنظيم 'القاعدة' من تنظيم محلي يريد اخراج القوات الامريكية من الجزيرة العربية بعد انتهاء دورها 'بتحرير الكويت' الى تنظيم عالمي يفتتح فروعاً في مختلف انحاء العالم الا بفضل شخصيات قيادية مصرية مثل الدكتور ايمن الظواهري،
ومحمد عاطف (ابو حفص المصري)،
وسيف العدل،
ومصطفى حامد،
ومصطفى ابو اليزيد وغيرهم الكثير.
***
تكرار العبارات التقليدية في الصحف ومحطات التلفزة المصرية والعربية،
حول الوحدة الوطنية وضرورة تعزيزها،
والاخاء المسيحي الاسلامي،
والمؤامرات الخارجية،
كلها عبارات جميلة بل ومطلوبة،
ولكن شريطة ان لا تبعدنا عن الازمة الحقيقية واسبابها وجذورها،
وهي حالة الانهيار التي تشهدها مصر حالياً على اكثر من صعيد بسبب التحالف الانتهازي بين عصابات رجال الاعمال والمجموعة الحاكمة،
واستخدام النظام وقواه الضاربة من اجل تحقيق مصالح القطط السمان على حساب الفقراء المسحوقين وهم الاغلبية.
الاجهزة المصرية استخدمت الاساليب نفسها التي استخدمتها وتستخدمها جميع الانظمة الديكتاتورية العربية،
في الاقدام على اعتقال مجموعة من الاشخاص فور وقوع الجريمة بتهمة التورط في عملية التفجير لامتصاص النقمة الشعبية والظهور بمظهر المسيطر على الاوضاع الامنية،
ولكن مثل هذه الاساليب لا يمكن ان تعفي هذه الاجهزة،
والمسؤولين الكبار خاصة،
من التقصير في حماية دور العبادة المسيحية،
في ظل تحريض طائفي بلغ ذروته،
وفي وقت حساس جداً من العام وكل الاعوام،
وهو احتفالات اعياد الميلاد ورأس السنة.
نضم صوتنا الى جميع الاصوات التي ادانت هذه الجريمة من مختلف انحاء العالم،
والعربي والاسلامي على وجه الخصوص، فالاشقاء المسيحيون،
هم جزء اصيل من ثقافتنا وهويتنا العربية الاسلامية،
ويجب ان يحميهم المسلمون اولاً،
ويوفروا لهم الامن وحرية العبادة مثلما فعل رسولنا وقائدنا وقدوتنا محمد بن عبدالله 'صلى الله عليه وسلم'،
ولكن هذه الادانة يجب ان لا تعمينا عن رؤية مخططات التفتيت والتفكيك التي تستهدف جميع بلداننا،
وعن الاعداء الحقيقيين الذين يقفون خلفها،
واولهم اسرائيل.
مصر العظيمة فقدت بوصلتها منذ ان وقعت في مصيدة سلام مغشوش،
بل مسموم اخرجها من دورها القيادي والريادي،
واول خطوة لاخراجها من ازماتها هو باستعادتها لهذا الدور الذي خطفه الآخرون منها،
وهمشوها بالشكل الذي نراه حالياً...
نقولها وفي حلوقنا مرارة العلقم.
عبد الباري عطوان
2011-01-02
عمليات تفتيت وتفكيك الدولة 'القطرية' العربية لم تعد تقتصر على الجغرافيا،
مثلما هو حادث حالياً في السودان واليمن والعراق،
بل بدأت تمتد الى الديموغرافيا ايضاً،
وبهدف تمزيق النسيج الاجتماعي والبشري،
من خلال اتباع أساليب الاغراق في حروب او مواجهات طائفية او عرقية،
والعمل الاجرامي الذي استهدف كنيسة الاسكندرية،
وراح ضحيته اكثر من عشرين شخصاً،
ليلة رأس السنة لا يمكن النظر اليه الا من هذا المنظور.
مصر مستهدفة اكثر من غيرها،
لانها دولة محورية في العالم العربي،
وتشكل الثقل البشري والحضاري،
وعنصر التأثير الأقوى في محيطها،
ولهذا تتعاظم محاولات الاجهاز عليها،
بعد تكبيلها بمعاهدات سلام مهينة اخرجتها من محيطها،
وجمدت دورها القيادي والريادي،
وجعلتها تكتلاً بشرياً ضخماً بدون قضية وطنية حقيقية في منطقة تعتبر الاكثر التهاباً وغلياناً في العالم بأسره.
ردود الفعل الرسمية التي تنطوي على الكثير من السذاجة السياسية والفكرية،
كشفت عن مصدر الخلل الكبير الذي ينخر جسد المؤسسة الحاكمة،
ويدفع بالبلاد الى سيناريو عنف مرعب لا يمكن التكهن بنتائجه لما ينطوي عليه من اخطار جمة.
فالحكومة المصرية،
سارعت،
وبعد ساعات محدودة من وقوع التفجير،
وقبل بدء اي تحقيقات،
بتصدير الازمة الى جهات خارجية،
وتوجيه اصابع الاتهام بطريقة مباشرة او غير مباشرة الى تنظيم 'القاعدة' بالوقوف خلف هذه الجريمة.
تنظيم 'القاعدة' او بعض الجماعات المحسوبة عليه،
قد لا يكون بريئاً من مثل هذه الاعمال،
بل واعلن مسؤوليته عن ما هو اكبر منها (هجمات الحادي عشر من ايلول/سبتمبر) ولكن هذا التنظيم،
حتى لو كان يقف خلف هذا العمل الاجرامي،
فانه ما كان لينجح في تنفيذه بدون ادوات محلية،
وفي ظل مناخ عام يسهل اعماله ومخططاته.
لا بد من الاعتراف،
اعتراف النخبة الحاكمة في مصر على وجه التحديد،
بان الازمة داخلية صرفة ومتفاقمة،
فالبلد يعيش حالة من الاحتقان الداخلي،
والشحن الطائفي، تقابلهما قراءة خاطئة،
وغير علمية،
سواء بطريقة متعمدة،
او بسبب الجهل،
لمعرفة اسباب هذا الاحتقان،
لوصف العلاج العملي الناجع على المستويين القصير والبعيد المدى في الوقت نفسه.
***
الازمة في مصر ثقافية وسياسية واقتصادية وامنية وتعليمية واعلامية،
بل واخلاقية ايضاً،
ومحاولة كنسها وإخفائها تحت سجاد سرير السلطة هي من الاسباب الرئيسية لتفاقمها.
الاختراق الحقيقي لمصر ليس من قبل الجماعات المتطرفة فقط،
وانما بالدرجة الاولى من قبل العدو الاسرائيلي،
ففي الوقت الذي نسيت فيه الحكومة المصرية امنها الداخلي،
وركزت طوال السنوات الثلاثين الماضية على حماية الامن الاسرائيلي،
حتى لو وصل بها الامر الى توظيف الجنود المصريين لتأمين الحدود الاسرائيلية باطلاق النار بهدف القتل على المتسللين الافارقة الباحثين عن لقمة خبز،
كانت اسرائيل في المقابل ترد الجميل الى مصر بزرع شبكات التجسس لاختراق الامن القومي المصري،
وتحريض دول منابع النيل في العمق الافريقي لتفكيك معاهدات توزيع مياهه،
وتهديد الامن المائي المصري.
فعندما تزوّر الحكومة المصرية الانتخابات في وضح النهار،
وتمارس عمليات اقصاء سياسي فاضح لقوى المعارضة الاخرى المؤمنة بالنظام،
والمتعايشة معه،
والرافضة لاساليب العنف كأداة للتغيير،
والمتمسكة بالحوار وأدب الخلاف تحت قبة البرلمان،
فان عليها ان تتوقع الاسوأ.
فقمع المعارضة واخراجها بطريقة مهينة من العملية السياسية،
وابعادها عن ممارسة حقها الدستوري في المشاركة في دوائر الرقابة وصنع القرار،
ستؤدي حتماً الى نزول بعضها الى تحت الارض،
والعمل في الظلام.
لقد نسي دهاقنة النظام ومنظروه في مصر،
ان العنف الطائفي والسياسي كان موجوداً في البلاد قبل ظهور تنظيم 'القاعدة' بعقود،
بل لا نبالغ اذا قلنا ان هذا التنظيم وصل الى ما وصل اليه بسبب سيطرة العنصر المصري على مقدراته،
وتحويل مساره العقائدي والايديولوجي الوجهة التي نراها حالياً.
فالقيادات العسكرية والفكرية في تنظيم 'القاعدة' هي مصرية بالاساس،
والنواة الاصلية لجماعات استأصلها النظام،
مثل حركة الجهاد الاسلامي،
والجماعة الاسلامية،
والتكفير والهجرة،
ولم يتحول تنظيم 'القاعدة' من تنظيم محلي يريد اخراج القوات الامريكية من الجزيرة العربية بعد انتهاء دورها 'بتحرير الكويت' الى تنظيم عالمي يفتتح فروعاً في مختلف انحاء العالم الا بفضل شخصيات قيادية مصرية مثل الدكتور ايمن الظواهري،
ومحمد عاطف (ابو حفص المصري)،
وسيف العدل،
ومصطفى حامد،
ومصطفى ابو اليزيد وغيرهم الكثير.
***
تكرار العبارات التقليدية في الصحف ومحطات التلفزة المصرية والعربية،
حول الوحدة الوطنية وضرورة تعزيزها،
والاخاء المسيحي الاسلامي،
والمؤامرات الخارجية،
كلها عبارات جميلة بل ومطلوبة،
ولكن شريطة ان لا تبعدنا عن الازمة الحقيقية واسبابها وجذورها،
وهي حالة الانهيار التي تشهدها مصر حالياً على اكثر من صعيد بسبب التحالف الانتهازي بين عصابات رجال الاعمال والمجموعة الحاكمة،
واستخدام النظام وقواه الضاربة من اجل تحقيق مصالح القطط السمان على حساب الفقراء المسحوقين وهم الاغلبية.
الاجهزة المصرية استخدمت الاساليب نفسها التي استخدمتها وتستخدمها جميع الانظمة الديكتاتورية العربية،
في الاقدام على اعتقال مجموعة من الاشخاص فور وقوع الجريمة بتهمة التورط في عملية التفجير لامتصاص النقمة الشعبية والظهور بمظهر المسيطر على الاوضاع الامنية،
ولكن مثل هذه الاساليب لا يمكن ان تعفي هذه الاجهزة،
والمسؤولين الكبار خاصة،
من التقصير في حماية دور العبادة المسيحية،
في ظل تحريض طائفي بلغ ذروته،
وفي وقت حساس جداً من العام وكل الاعوام،
وهو احتفالات اعياد الميلاد ورأس السنة.
نضم صوتنا الى جميع الاصوات التي ادانت هذه الجريمة من مختلف انحاء العالم،
والعربي والاسلامي على وجه الخصوص، فالاشقاء المسيحيون،
هم جزء اصيل من ثقافتنا وهويتنا العربية الاسلامية،
ويجب ان يحميهم المسلمون اولاً،
ويوفروا لهم الامن وحرية العبادة مثلما فعل رسولنا وقائدنا وقدوتنا محمد بن عبدالله 'صلى الله عليه وسلم'،
ولكن هذه الادانة يجب ان لا تعمينا عن رؤية مخططات التفتيت والتفكيك التي تستهدف جميع بلداننا،
وعن الاعداء الحقيقيين الذين يقفون خلفها،
واولهم اسرائيل.
مصر العظيمة فقدت بوصلتها منذ ان وقعت في مصيدة سلام مغشوش،
بل مسموم اخرجها من دورها القيادي والريادي،
واول خطوة لاخراجها من ازماتها هو باستعادتها لهذا الدور الذي خطفه الآخرون منها،
وهمشوها بالشكل الذي نراه حالياً...
نقولها وفي حلوقنا مرارة العلقم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق