بقلم: منير شفيق
2010-12-31
أثبتت التجربة، ومن خلال الاستناد إلى الوقائع في ما انتهت إليه الأوضاع على المستوييْن العملي والسياسي، ما يأتي:
1- لا جدوى من المفاوضات والسير في طريق التنازلات من جانب واحد، تحت شعار إيجاد حلّ للقضيّة الفلسطينية أو ما يسمّى التسوية وصولاً إلى الحل على أساس حلّ الدولتين.
2- ما سجلته التجربة هو أن كل ذلك كان يتمّ من خلال تقديم التنازلات من جانب واحد، فيما الطرف الإسرائيلي لم يشر من بعيد أو قريب إلى ما يسلم به كحق من حقوق الشعب الفلسطيني وعلى التحديد في الأرض الفلسطينية.
إن أقصى ما قدمه كان الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة للفلسطينيين. وهذا لا يعني الاعتراف بأي حق للشعب الفلسطيني في أرض فلسطين ولا حتى في جزء منها. ناهيك حتى عن الاعتراف بحق العودة، أو بحق الوجود في أرض فلسطين.
3- إن مجرد التفاوض من جانب الطرف الإسرائيلي لم يعنِ، لا تلقائياً ولا ضمناً، أو علناً، اعترافاً بأيّ حق للشعب الفلسطيني. بل لم يصحبه أي اعتراف بأي قرار من قرارات هيئة الأمم المتحدة، ابتداء من قرار التقسيم وانتهاء بالقرار 242. وهذا هو موقفه حتى الآن. بل حتى خريطة الطريق بعد أن ووفق عليها فلسطينياً سجّل المفاوض الصهيوني عليها 14 تحفظاً.
4- كان نهج القيادات الإسرائيلية ومن قبلها قيادات الوكالة اليهودية هو هاتوا ما عندكم، خطوة بعد خطوة، من "التنازلات"، أو الأدق من الاعترافات بحقوق لليهود كما يترجمه المشروع الصهيوني والدولة الإسرائيلية.
5- وكان النهج المتكرر منذ اليوم الأول من جانب بريطانيا، ثم لاحقاً من جانب اميركا والدول الغربية، ومن يمكن أن يجرّ إليه من دول وقوى سياسية واجتماعية في العالم هو التالي: طرح مشاريع للحل، أو مبادئ للحل أو اتخاذ قرارات دولية. وهي جميعاً كانت موجهة، في حينه وحتى الآن، إلى الفلسطينيين والعرب والعالم للاعتراف بها باعتبارها الحل الوسط المعقول والمقبول لحل الصراع عند الحد الذي وصل إليه التنازل الفلسطيني والعربي. وكان قدّم في السابق كحل وسط.
6- وكانت المحصلة باستمرار انتزاع الموافقة الفلسطينية والعربية، وحتى الدولية غير العربية عموماً، سواء بعد تمنّع أم فوراً أم تدرّجاً على المطروح في كل مرحلة. ولكن من دون اشتراط الموافقة عليه من جانب قادة المشروع الصهيوني. فقد كان نهجهم هو انتظار موقف الطرف الآخر بداية، وما أن يعلن موافقته، يعتبرونها خطوة إيجابية، حدثت مع مشروع الحل المطروح أو القرار من هيئة الأمم المتحدة ثم يعتبرونها غير كافية.
ثم يبدأون بطرح تحفظات ليترك الأمر للتفاوض الذي لا يقوم على أي شروط مسبقة، عدا الاعتراف بدولتهم وما تمّ تحقيقه. وهكذا تدرجت كل المشاريع والقرارات، ودعك من التي طلب من الفلسطينيين أو العرب المبادرة إلى طرحها، كحل، أو برنامج مرحلي، أو عبرّت عن موقف جديد، مثلاً البرامج المرحلية على اختلافها، أو مبادرة السلام العربية، أخيراً. وخلاصته:
- الجانب الإسرائيلي يستقبل ما يكون قد قدّم له من خلال كل مشروع حل أو قرار من هيئة الأمم، أو موقف فلسطيني أو عربي، اتخذ في حينه، فيعتبره قد أصبح في الجيب فيما المطلوب "تطويره" من جانب الآخرين والوسطاء أو عبر المفاوضات وما سيطلبه فيها. هذا هو الموقف والمسار حتى الآن.
- الجانب الفلسطيني والعربي الباحث عن تسوية يكون عملياً قد قدّم تنازلاً جديداً، ولم يحصل في المقابل على شيء من الاعتراف بأي من الحقوق الفلسطينية في الأرض والوطن والوجود عليها أو العودة إليها.
- الجانب الدولي المعني في الرعاية والوساطة (الدول الغربية أساساً) يقبل في كل مرّة وجهة النظر الإسرائيلية، عملياً، إن لم يكن رسمياً، فيتناسى بعد حين ما كان قد طرحه من مشروع حل، أو اتخذ من قرار دولي من قِبَل هيئة الأمم المتحدة، وأساساً، من مجلس الأمن. ثم يبدأ بطرح مشروع "حل وسط" أو حل "معقول ومقبول" جديد ("حل عادل")، يتجاوز ما وافق عليه الفلسطينيون والعرب ليكون الحل الوسط بين آخر موقف لهم وسقف إسرائيلي أعلى جديد (مفترض من جانبهم؛ لأن الجانب الإسرائيلي لم يحدّد سقفاً للحل قط ولم يزل).
- حتى مشروع حلّ الدولتين (الدولة في الضفة والقطاع أو ما يسمّى في حدود 1967) أُدخِل عليه مبدأ "تبادل الأراضي"، والبحث عن حل مشترك ل"القدس الشرقية" مع اعتبار مصير القدس الغربية منتهياً. وما كان منتهياً إلاّ في المرحلة الأخيرة من جانب اميركا والدول الغربية (الاعتراف ب"القدس الغربية" عاصمة لدولة إسرائيل والتفاوض على وضع "القدس الشرقية").
وبهذا لم تحدّد الأراضي التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية، وما هو وضعها الحقوقي: هل سيعترف بأنها حق للشعب الفلسطيني أم يترك له أن يعتبرها كذلك فيما يعتبر الجانب الإسرائيلي أنه قام بإعادة انتشار، أو فك ارتباط، أو اعترف بدولة دون الاعتراف بحقها في الأرض التي تقوم عليها. وحتى هذا سيكون مشروطاً بعدد من القضايا الأمنية بما فيه السيطرة على المداخل والأجواء وتحديد التسلح وعدد من الشروط الأخرى الإقتصادية والسياسية.
ما يظهر حتى الآن دولة مفرغة من السيادة السياسية والأمنية، وحرمان من الحق في الأرض التي تقوم عليها؛ لأن الجانب الإسرائيلي سيظل يؤكد بأنها جزء من أرض إسرائيل.
ثم تأتي ثالثة الأثافي وهي شرط الاعتراف بيهودية الدولة. وقد أصبح سياسة رسمية للإدارة الاميركية. إن هذا الاعتراف يمسّ "أصل الحق في فلسطين" أي المطلوب من الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم الاعتراف به كذلك. وبهذا لا يعود الاعتراف بحق الوجود لإسرائيل، ولا مجرد الاعتراف الديبلوماسي بها، وإنما يراد منه أن يكون اعترافاً بأصل الحق في فلسطين أي فلسطين حق مَنْ راهناً وتاريخياً؟
وبهذا تكون التجربة التاريخية أثبتت أن المفاوضات وعملية التسوية، وبتواطؤ غربي، كانتا طريقاً باتجاه واحد. الطرف الإسرائيلي يأخذ ويأخذ، ولم يقدّم شيئاً قط، عدا الاعتراف، المفرغ من أيّ اعترافٍ بحقوقٍ في الأرض للشعب الفلسطيني. أي الاعتراف بمنظمة التحرير بأنها ممثل لا أكثر، مع إلغاء جملة من بنود ميثاقها وتركها بلا ميثاق (دستور). ثم جاء القبول بحلِّ الدولتين من دون أن يُعترف بأيّ محتوى للدولة الفلسطينية، وعلى أيّة شروط ستقوم، عدا ما سيخرج من المفاوضات. أي ما سيوافق، أو الأصحّ، عدا ما سيشترطه المفاوض الصهيوني إن وصل فعلاً لبحث إقامة دولة حتى بشروطه الكاملة (التي ليس فيها حتى دويلة).
فطريق المفاوضات والتسوية هو طريق في اتجاه واحد ولا يمكن أن يكون على غير ذلك. فلا يتفاصَحَنَّ أحدٌ على المفاوض الفلسطيني أنه كان باستطاعته أن يفعل "أفضل"، أو يأتي بنتائج مختلفة. فالقانون الحاكم، هو ما أثبتته التجربة. ودعك من الافتراضات الوهمية واللاواقعية التي لم تأخذ، في الاعتبار استراتيجية المفاوض الإسرائيلي واستراتيجية اميركا ومؤيديهما. فمن يطالب بمفاوضات بديلة إنما يقدّم ورقة حسن سلوك لا أكثر، إن لم يكن ساذجاً وتبسيطياً.
فمن يرد التفاوض والعملية السياسية فذلكم الطريق الوحيد، وإلاّ لا مفاوضات ولا عملية تسوية خارج المعادلة المحكومة بالإستراتيجيتين المتكاملتيْن المذكورتيْن: استراتيجية الكيان الصهيوني واستراتيجية الولايات المتحدة.
ولهذا لا طريق غير ذلك الطريق الذي اتخذته المفاوضات والعملية السياسية، ولا نهاية غير النهاية التي وصلتها الأوضاع وذلك الطريق حتى الآن.
ومن ثمّ من العبث تجريب المجرّب، أو التشاطر في مجال لا تشاطر فيه لمن يريد دخول المفاوضات والعملية السياسية. ولهذا:
- إما الإيغال في الطريق نفسها وقد باتت نهاياتها معروفة بما يجعل استمرار السير في هذا الطريق محالاً؛ لأنه طريق لتصفية القضية والانتحار الذاتي.
- ليس أمامنا وضمن ما آلت إليه الأوضاع في الضفة الغربية، حيث الترجمة العملية للمفاوضات والعملية السياسية، غير التركيز على مقاومة الاحتلال ووضع حدّ للتدهور الذي وصلته "فتح" والقضية الفلسطينية والسلطة والوضع الفلسطيني بعامّة، بسبب السير على طريق المفاوضات وعملية التسوية والرهان عليهما. وذلك بسبب وهم إيجاد حلّ يحقق عشر معشار الحق الفلسطيني أو مصلحة الشعب الفلسطيني. فقد زاد الاستيطان تغوّلاً وقضماً لأراضي الضفة الغربية وتهويداً للقدس، وانتقل التفاوض ومسار التسوية إلى بحث يهودية الدولة أي التنازل عن أصل الحق في فلسطين، بل زاد الاحتلال هيمنة على الضفة الغربية لا سيما مع الاتفاق الأمني والتعاون الأمني. ولم يخطئ من وصفه باحتلال خمس نجوم. ولهذا خلاصة:
- ليس أمامنا من هدف يمكننا العمل في اتجاهه غير مقاومة الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس. الأمر الذي يتطلب أول ما يتطلب وقف التعاون الأمني مع قوات الاحتلال، في ظل الاستمساك بالحقوق والثوابت كاملة بلا عوج.
- لا بدّ من التخلص من الأوهام حول الرهان على أميركا أو الرباعية أو التعاون الأمني أو بناء المؤسسات تحت الاحتلال لإقامة الدولة، لأن التجربة المريرة أثبتت النتائج الوخيمة على الشعب الفلسطيني والقضية، والمترتبّة عن مثل هذه الرهانات.
- إن مقاومة الإحتلال ومواجهته وليس مفاوضته والتعاون معه، تحملان آفاقاً واسعة لفرض الانسحاب عليه كما حدث في جنوب لبنان وقطاع غزة. أما في الأقل فبالتأكيد أن الاحتلال والمستوطنين لا يفهمون لغة التفاوض والعملية السياسية والتعاون الأمني.
- استناداً إلى طبيعة الصراع في فلسطين (صراع وجود) وفهم عميق لاستراتيجية الكيان الصهيوني وللإستراتيجية الأميركية لا يمكن أن تطبق منهجية مقاومة ومفاوضات كما حدث في بعض التجارب. ومن يطالب بذلك يخادع نفسه أو يخشى أن يُواجِه المعادلة الحاسمة في القضية الفلسطينية، وهي إما مقاومة وإما مفاوضة ولا جمع بينهما، مع التأكيد بأن المفاوضة تعني الانتحار الذاتي وتعريض القضية الفلسطينية إلى التصفية.
ربما اعتبرها البعض معادلة مرّة أو حقيقة مرّة. ولكنها في كل الأحوال ليست من اختراعنا، وإنما هذا ما يؤكدّه الواقع وتثبته التجربة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق