أرض الميعاد"... والتحولات المعاكسة
بقلم د. أسعد عبد الرحمن
"أرض الميعاد"... حلم كبير ظلت الحركة الصهيونية تسعى لإقناع يهود العالم، وعلى مدار عقود طويلة، أنه مخطط قابل للتطبيق. إلا أنه، في الفترة الأخيرة، بدأ ذلك الحلم يتلاشى من أعين وقلوب كثير من اليهود، فيما أدار آخرون ظهورهم له بعد أن تبينت استحالة تحقيقه. فالسنوات القليلة الماضية تظهر تراجع مؤشرات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وارتفاع معدلات الرحيل والهجرة المعاكسة منها، إلى بلدان أخرى أكثر أمناً ورفاهيةً. وفي يونيو الماضي، أعدت وكالة الأنباء الفرنسية تحقيقاً حول الهجرة اليهودية المعاكسة من إسرائيل وتحولاتها، فاعترف بعض مغادري إسرائيل إلى ألمانيا بتوديعهم "حلم أرض الميعاد" ووعوده إلى حيث الخدمات الحياتية التي تهيئها لهم الحكومة الألمانية.
يقول البروفيسور "غابي شيفر"، في مقال حديث نشرته "هآرتس" بعنوان "أصغوا ليهود الولايات المتحدة"، إن كثيراً من اليهود "يشعرون بصلة عاطفية ب (أرض إسرائيل) لكن لا بإسرائيل"، ويضيف أن "أكثر اليهود مقتنعون بأن إسرائيل ليست مركز (الشعب اليهودي) وأنه لا حق لها البتة في التدخل في شؤونهم وفي شؤون التربية اليهودية". ويحيل الكاتب إلى استطلاعات للرأي لا تُقتبس في إسرائيل، قائلا إنها توضح بأن "أكثر اليهود الذين اندمجوا تماماً في المجتمع الأميركي يكشفون عن عدم اكتراث مطلق بما يقع في إسرائيل. ويشعر 30 في المئة فقط من يهود الولايات المتحدة باكتراث عميق بما يحدث هنا".
وفي 4 أكتوبر 2010 كتب البروفيسور الفخري في جامعة حيفا "أرنون سوفير" مقالاً في "هآرتس" بعنوان "الشيطان السكاني حي"، وبعد أن تأمل في إحصائيات المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء، قال: "ما الذي يبهج في معطيات المكتب المركزي للإحصاء لسنة 2010؟! تبين لي أنه فيما يتعلق باليهود داخل إسرائيل فإنهم يمثلون 75.5 في المئة من السكان، وكانت تلك النسبة تصل 79.2 في المئة خلال عام 1998 و81.7 في المئة في عام 1988. وبكلمة أخرى، فإن نسبة اليهود بين سكان (إسرائيل) تتضاءل باستمرار، رغم تدفق حوالي مليون مهاجر إليها على مدى العقدين الفائتين".
أما صحيفة "وول ستريت جورنال"، في تقرير لمراسلها من القدس المحتلة، فقد أثارت مشكلة انخفاض أعداد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل وهواجس احتمال تفوق الفلسطينيين على اليهود عددياً، فقالت إن انخفاض أعداد المهاجرين اليهود، خاصة من الولايات المتحدة وأوروبا، يشكل خيبة أمل لقادة إسرائيل الذين أوجدوا دولتهم على أساس عقيدة تقول إن على جميع اليهود العيش في دولة خاصة بهم. وتنقل الصحيفة على لسان رئيس "الوكالة اليهودية من أجل إسرائيل"، قوله "إن موضوع التركيبة السكانية في إسرائيل والحفاظ على اليهود كأغلبية سكانية، سبب غير كاف لإقناع اليهود بالهجرة إلى إسرائيل، لذلك فعلى القادة اليهود الاعتراف بحقيقة وجود الشتات اليهودي".
ويقول "إينات فيشباين" في مقال "صداع في رأس العلمانية الإسرائيلية"، إن الرسوم البيانية تظهر مسار نمو إسرائيل، وكيف كان ينبغي أن تكون بالمقارنة مع الدول الغربيَّة، وأين هي في الوقت الراهن، مبيناً كيف كانت إسرائيل تنمو بشكلٍ مثير للإعجاب حتى السبعينيات، بل وتقترب من أميركا، وفجأة بدأ المنحنى يهبط بقوة في الرسم البياني المعروف باسم "حرب يوم الغفران"، التي تبين لاحقًا أن "لها آثاراً مثل الفيروس الذي لا يمكن لأحد علاجه، ومن حينها لم يعد الرسم البياني قادراً على استعادة صعوده السابق".
وفي مواجهة هذه المشكلة، أوردت "صحيفة يديعوت" أحرونوت في عددها بتاريخ 13 أغسطس 2010 خبراً مفاده أن "نخب الحكم والسياسة في إسرائيل تضطلع بحملة لاستعادة زهاء 4500 من العلماء وأصحاب الخبرات المتميزة الذين غادروا (الدولة) خلال السنوات الأخيرة سعياً وراء الأموال والمناصب في الخارج". وجاء في الخبر أنه "تم تدشين قاعدة بيانات تتضمن أسماء واختصاصات أعضاء هذه الشريحة الرفيعة بهدف الاتصال بهم وتقديم عروض مغرية لهم"، كما تم إعداد "خطة شخصية لكل واحد من هؤلاء العلماء تتناسب ووضعه الاجتماعي والعلمي، بهدف دمجه في الهيئة الأكاديمية الإسرائيلية بعد إزالة أسباب شكواه".
ورغم هذه الجهود وغيرها، يمكن الحديث عن فشل متنام للدوائر الصهيونية المسؤولة عن استقطاب يهود جدد. فالتطرف يجتاح المجتمع الإسرائيلي الذي بات يميل نحو أفكار اليمين الديني (والقومي) حتى باتت العقيدة الدينية الأكثر تأثيراً على توجهات الأحزاب والنخب السياسية في الدولة الصهيونية. وتؤكد استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي أن العقيدة اليهودية أضحت المحرك الأول لإسرائيل تليها المصالح السياسية، ومن ثم فقد ترسخت عقيدة "أبدية الصراع مع العرب"، وهو الأمر البارز الذي أضعف الإغراء عند اليهود بأن إسرائيل وطن قومي وآمن ليهود العالم، خاصة وأن هؤلاء يعيشون برفاه في معظم دول العالم، ولم تعد مغريات إسرائيل الاقتصادية توازي ما يحققونه داخل بلدانهم.
لقد قاد الخوف من فقدان الأغلبية اليهودية في إسرائيل (وسط محيط متزايد من العرب) إلى تكثيف محاولات إقناع يهود العالم بالهجرة إلى إسرائيل من جهة، وسن قوانين عنصرية من جهة أخرى تستهدف فلسطينيي 48 وتسعى لإجبارهم على الرحيل. فكل ما تخطط له القيادات الإسرائيلية، منذ تأكد تراجع الهجرة إلى إسرائيل وتعاظم الهجرة المعاكسة في عام 2008، هو عمليات استقطاب "يهود الخارج" لرفع منسوب اليهود داخل "إسرائيل" بفضل الأزمة الديمغرافية التي تؤرق أصحاب الحلم الصهيوني وتظهر مأزق الصهيونية ومشروعها في فلسطين تجاه هذه المسألة. لذلك، عملت "الوكالة اليهودية"، منذ عقود طويلة، على جلب أكبر عدد ممكن من يهود العالم إلى فلسطين لتحقيق التفوق العددي الذي تمت المراهنة عليه (عبر هجرة أو تهجير اليهود) باعتباره العمود الفقري الداعم لاستمرار المشروع الصهيوني المتجسد بالدولة الإسرائيلية. واليوم، فإن تراجع الهجرة الوافدة إلى "إسرائيل" وتعاظم الهجرة المعاكسة منها، تطوران يشكلان ضربة قاسية لأهم أسس الأيديولوجيا الصهيونية. وبذلك يتزايد التشكيك اليهودي بجدوى المشروع الصهيوني وكذبة "أرض الميعاد". بل إن التشكيك يتعزز بما جاء في تقرير "وول ستريت جورنال" على لسان "شارانسكي" نفسه من أن "أيام الهجرة الجماعية قد ولت"، الأمر الذي يفتح المجال على تغير مظاهر تقلص التفوق العددي من مجرد مظاهر... إلى تحولات نوعية!
بقلم د. أسعد عبد الرحمن
"أرض الميعاد"... حلم كبير ظلت الحركة الصهيونية تسعى لإقناع يهود العالم، وعلى مدار عقود طويلة، أنه مخطط قابل للتطبيق. إلا أنه، في الفترة الأخيرة، بدأ ذلك الحلم يتلاشى من أعين وقلوب كثير من اليهود، فيما أدار آخرون ظهورهم له بعد أن تبينت استحالة تحقيقه. فالسنوات القليلة الماضية تظهر تراجع مؤشرات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وارتفاع معدلات الرحيل والهجرة المعاكسة منها، إلى بلدان أخرى أكثر أمناً ورفاهيةً. وفي يونيو الماضي، أعدت وكالة الأنباء الفرنسية تحقيقاً حول الهجرة اليهودية المعاكسة من إسرائيل وتحولاتها، فاعترف بعض مغادري إسرائيل إلى ألمانيا بتوديعهم "حلم أرض الميعاد" ووعوده إلى حيث الخدمات الحياتية التي تهيئها لهم الحكومة الألمانية.
يقول البروفيسور "غابي شيفر"، في مقال حديث نشرته "هآرتس" بعنوان "أصغوا ليهود الولايات المتحدة"، إن كثيراً من اليهود "يشعرون بصلة عاطفية ب (أرض إسرائيل) لكن لا بإسرائيل"، ويضيف أن "أكثر اليهود مقتنعون بأن إسرائيل ليست مركز (الشعب اليهودي) وأنه لا حق لها البتة في التدخل في شؤونهم وفي شؤون التربية اليهودية". ويحيل الكاتب إلى استطلاعات للرأي لا تُقتبس في إسرائيل، قائلا إنها توضح بأن "أكثر اليهود الذين اندمجوا تماماً في المجتمع الأميركي يكشفون عن عدم اكتراث مطلق بما يقع في إسرائيل. ويشعر 30 في المئة فقط من يهود الولايات المتحدة باكتراث عميق بما يحدث هنا".
وفي 4 أكتوبر 2010 كتب البروفيسور الفخري في جامعة حيفا "أرنون سوفير" مقالاً في "هآرتس" بعنوان "الشيطان السكاني حي"، وبعد أن تأمل في إحصائيات المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء، قال: "ما الذي يبهج في معطيات المكتب المركزي للإحصاء لسنة 2010؟! تبين لي أنه فيما يتعلق باليهود داخل إسرائيل فإنهم يمثلون 75.5 في المئة من السكان، وكانت تلك النسبة تصل 79.2 في المئة خلال عام 1998 و81.7 في المئة في عام 1988. وبكلمة أخرى، فإن نسبة اليهود بين سكان (إسرائيل) تتضاءل باستمرار، رغم تدفق حوالي مليون مهاجر إليها على مدى العقدين الفائتين".
أما صحيفة "وول ستريت جورنال"، في تقرير لمراسلها من القدس المحتلة، فقد أثارت مشكلة انخفاض أعداد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل وهواجس احتمال تفوق الفلسطينيين على اليهود عددياً، فقالت إن انخفاض أعداد المهاجرين اليهود، خاصة من الولايات المتحدة وأوروبا، يشكل خيبة أمل لقادة إسرائيل الذين أوجدوا دولتهم على أساس عقيدة تقول إن على جميع اليهود العيش في دولة خاصة بهم. وتنقل الصحيفة على لسان رئيس "الوكالة اليهودية من أجل إسرائيل"، قوله "إن موضوع التركيبة السكانية في إسرائيل والحفاظ على اليهود كأغلبية سكانية، سبب غير كاف لإقناع اليهود بالهجرة إلى إسرائيل، لذلك فعلى القادة اليهود الاعتراف بحقيقة وجود الشتات اليهودي".
ويقول "إينات فيشباين" في مقال "صداع في رأس العلمانية الإسرائيلية"، إن الرسوم البيانية تظهر مسار نمو إسرائيل، وكيف كان ينبغي أن تكون بالمقارنة مع الدول الغربيَّة، وأين هي في الوقت الراهن، مبيناً كيف كانت إسرائيل تنمو بشكلٍ مثير للإعجاب حتى السبعينيات، بل وتقترب من أميركا، وفجأة بدأ المنحنى يهبط بقوة في الرسم البياني المعروف باسم "حرب يوم الغفران"، التي تبين لاحقًا أن "لها آثاراً مثل الفيروس الذي لا يمكن لأحد علاجه، ومن حينها لم يعد الرسم البياني قادراً على استعادة صعوده السابق".
وفي مواجهة هذه المشكلة، أوردت "صحيفة يديعوت" أحرونوت في عددها بتاريخ 13 أغسطس 2010 خبراً مفاده أن "نخب الحكم والسياسة في إسرائيل تضطلع بحملة لاستعادة زهاء 4500 من العلماء وأصحاب الخبرات المتميزة الذين غادروا (الدولة) خلال السنوات الأخيرة سعياً وراء الأموال والمناصب في الخارج". وجاء في الخبر أنه "تم تدشين قاعدة بيانات تتضمن أسماء واختصاصات أعضاء هذه الشريحة الرفيعة بهدف الاتصال بهم وتقديم عروض مغرية لهم"، كما تم إعداد "خطة شخصية لكل واحد من هؤلاء العلماء تتناسب ووضعه الاجتماعي والعلمي، بهدف دمجه في الهيئة الأكاديمية الإسرائيلية بعد إزالة أسباب شكواه".
ورغم هذه الجهود وغيرها، يمكن الحديث عن فشل متنام للدوائر الصهيونية المسؤولة عن استقطاب يهود جدد. فالتطرف يجتاح المجتمع الإسرائيلي الذي بات يميل نحو أفكار اليمين الديني (والقومي) حتى باتت العقيدة الدينية الأكثر تأثيراً على توجهات الأحزاب والنخب السياسية في الدولة الصهيونية. وتؤكد استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي أن العقيدة اليهودية أضحت المحرك الأول لإسرائيل تليها المصالح السياسية، ومن ثم فقد ترسخت عقيدة "أبدية الصراع مع العرب"، وهو الأمر البارز الذي أضعف الإغراء عند اليهود بأن إسرائيل وطن قومي وآمن ليهود العالم، خاصة وأن هؤلاء يعيشون برفاه في معظم دول العالم، ولم تعد مغريات إسرائيل الاقتصادية توازي ما يحققونه داخل بلدانهم.
لقد قاد الخوف من فقدان الأغلبية اليهودية في إسرائيل (وسط محيط متزايد من العرب) إلى تكثيف محاولات إقناع يهود العالم بالهجرة إلى إسرائيل من جهة، وسن قوانين عنصرية من جهة أخرى تستهدف فلسطينيي 48 وتسعى لإجبارهم على الرحيل. فكل ما تخطط له القيادات الإسرائيلية، منذ تأكد تراجع الهجرة إلى إسرائيل وتعاظم الهجرة المعاكسة في عام 2008، هو عمليات استقطاب "يهود الخارج" لرفع منسوب اليهود داخل "إسرائيل" بفضل الأزمة الديمغرافية التي تؤرق أصحاب الحلم الصهيوني وتظهر مأزق الصهيونية ومشروعها في فلسطين تجاه هذه المسألة. لذلك، عملت "الوكالة اليهودية"، منذ عقود طويلة، على جلب أكبر عدد ممكن من يهود العالم إلى فلسطين لتحقيق التفوق العددي الذي تمت المراهنة عليه (عبر هجرة أو تهجير اليهود) باعتباره العمود الفقري الداعم لاستمرار المشروع الصهيوني المتجسد بالدولة الإسرائيلية. واليوم، فإن تراجع الهجرة الوافدة إلى "إسرائيل" وتعاظم الهجرة المعاكسة منها، تطوران يشكلان ضربة قاسية لأهم أسس الأيديولوجيا الصهيونية. وبذلك يتزايد التشكيك اليهودي بجدوى المشروع الصهيوني وكذبة "أرض الميعاد". بل إن التشكيك يتعزز بما جاء في تقرير "وول ستريت جورنال" على لسان "شارانسكي" نفسه من أن "أيام الهجرة الجماعية قد ولت"، الأمر الذي يفتح المجال على تغير مظاهر تقلص التفوق العددي من مجرد مظاهر... إلى تحولات نوعية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق