حامد العلي : ثـورة الويكيليكس !
حامد بن عبدالله العلي
المعادلة سهلة للغاية ومباشرة : إذا كان كلُّ شيء في الإنسان إنما يبدأ من العقـل ، فإذا تغيـَّر العقـل الجمعي للناس ، فالتغيـير السياسي قادمٌ لامحالـة.
ولاريب أنَّ مساق السنن الكونية ، ومسارات التاريخ ، تقود إلى نتيجة حتمية واحدة ، هي أنَّ الأنظمة العربية الحالية في طريقها إلى الزوال ، بل بعضها قد انتهى عمره الإفتراضي أصـلا حسب قوانين الطبيعـة !
وأنّ التغيير واقـع ، ماله من دافـع ، ذلك أنّ ثورة المعلومات ، والإتصالات ، سوف تغـيّر الخارطة السياسية في المنطقة العربية برّمتها ، كما غيرت الحياة كلَّهـا ، شـاء من شاء ، وأبى من أبى .
وليس الذي يجري في موقع الويكيليكس سوى أحد تجليـّات هذه الحقيقة ، فقد كانت الأسرار السياسية للدول الغربية تبقى حبيسة أرشيف لاتطولـه يـدٌ ، ولا تقع عليه عينٌ ، ولاتُكشف إلاّ بعد مضيّ عقود ، وعلى قدر ما يرغبون في كشفـه أيضا ، وعندما لايبقى لتلك الأسـرار أثـرٌ يذكـر على العلاقات السياسية الدولية ،
أما اليـوم فما كانت أمريكا ليخطر على بالها أن تجد نفسها في هذا الحرج العالمي ، وبرقياتها السياسية السريـّة تنشر على الملأ لاسيما التي تكشف وجهات النظر كانـت طـيّ الكتمان في رؤساء دول ، تبشُّ أمريكا في وجوهـهم بنفاقها المعهـود لتستخدمهم في أطماعها _ فتفضح من خبايا الزوايا ما لو قدرت أن تدفـع الملايين لتحول دون أن تنشـر ، لفعلـت .
ثـم تضطر إلى إجراء إتصالات سريعة بحلفائها لتدارك الموقف ،
حتى نقلـت وكالات الأنباء : ( وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أجرت اتصالات بإحدى عشرة عاصمة دولية ، في محاولة لتخفيف أثر الصدمة التي سببتها المعلومات الواردة في البرقيات الدبلوماسية المسرَّبة ) .
وأيضا نشـر على نطاق واسع في الإعلام : ( يرى الأميركيون أن نشر هذه الوثائق التي قد تتضمن تقييمات صريحة لقادة ، وحكومات دول أجنبية ، يمكن أن يؤدي إلى تآكل الثقة فـي الولايات المتحدة كشريك دبلوماسي ) .
ولكن هيهـات ، فقـد سبق السيف العذل .
إنَّ هذه الثورة الهائلة والسريعة التي فَجَـأت فبهـتت التطوُّر السلس والهادىء للحياة البشرية ، ستحدث زلازلَ وبراكين في الجغرافية السياسية العالمية ، والإقليمية ، ريثما تكمل دورتها الطبيعية ، فتهـدأ لتكشف عن مشهد جديد بالكلية .
ومن الأمثلة المدهشـة على مدى التأثير التي تحدثه هذه الثورة المعلوماتية والإتصالاتيه ، ما نشرته صحيفة لوس أنجلوس الأميركية ، أنَّ ( دول الخليج العربي بشكل عام تتحاشى عادة انتقاد إيران بشكل علني ، ولكن الوثائق كشفت أنّ ما يجري في الخفاء مختلف عما يجري بالعلن ، فكلُّ من العاهلين السعودي ، والبحريني ، ظهر أنهما حثـّا الولايات المتحدة بشكل سرّي على ضرب المنشآت النووية الإيرانية ، وتقول إحداها إنَّ أحد المسؤولين السعوديين قد ذكّر الأميركيين بأنّ العاهل السعودي قد طالبهم مرارا " بقطع رأس الأفعى " قبـل فوات الأوان ) .
ومنها أنّ هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية أمرت بجمع معلومات عن الأمين العام للأمم المتحدة ، وكبار مساعديه ، ومندوبي الدول الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن ، كما أمرت بجمع معلومات عن قادة حماس والسلطة الفلسطينية ، والتجسس يشمل أرقام بطاقات الإئتمان ، بل الحمض النووي !
وأنَّ عملاء للحكومة الصينيّة شنّوا حملة تخريب منظمة لأجهزة كمبيوتر استهدفت الولايات المتحدة وحلفائها.
وأنَّ أمريكا حاولت بصورة سريـّة سرقة يورانيوم عالي التخصـيب ، من مفاعل باكستاني للأبحاث.
وعلى أية حال فالوثائق المنشورة تحتاج إلى أشهر لتحليلها ، فهي أكثر من 250 ألف رسالة سياسية ، ولعلها تتضمن أخطـر من هذه الفضائح بكثيـر.
وهي إلى جانب ما نشرته من فضائح مؤثـرة ، ستقلب الموازين في عالم الدبلوماسية الأمريكية ، محدثـةً نفس الأثر الذي أحدثته الأزمة المالية في الإقتصاد الأمريكي ، هـي أيضـا تكشف على الملأ وبشكل غير مسبوق ، آلية عمل الهيئات السياسة ، والإستخباراتية ، الأمريكية ، وأساليبها ، بصورة عامة ، وكذلك في دول أخرى ، مثل الصين ، وروسيا ، وفرنسا ، والعالم العربي ، فيؤدي ذلك إلى إضعاف الهيمنة الأمريكية بشدة .
وفي هذا الحدث الذي فجـّر دويـّا عالميـّا أمس عدّةُ عبـر مهمة :
إحداها : أنَّ الإنهيـار الأمريكي يبدو أنـَّه سيكون أسرع من المتوقع ، فهذه الفضيحة سيكون لها أثـرٌ خطير على أمريكـا ، وهي من جهة أخرى تعكس أنَّ التمدُّد الإمبراطوري الأمريكي بلغ درجة لايمكنه السيطرة على ما يجري ، ولهذا سلّط الله تعالى عليها لعنة من داخلها ، من الساخطين على طغيانها ، فأخذوا يسرّبون هذه الفضائح إلى موقع الويكيليكس من حيث لاتستطيع أمريكا معرفتهم ، ولا ملاحقتهم ، فوقفـت عاجـزة أمام هذا التسريب الذي بدأ يدخـل المـاء إلى السفينة ، ويسحبها إلى الغـرق.
الثانية : أنَّ أي مقدار من حريـة النقد الإعلامية الحقيقية في العالم ، قادر _ مع عامل الزمـن _ على هزيمـة أعتى قوة طغيان فيه ، فهذا موقع الويكيلكس لم يصنع شيئا ، سوى أنـَّه فتح موقعا ودعا من لديه وثائق عن أيّ جريمة ، أو إنتهاكات ، أن يرسلها إلى الموقع ، ثم الموقع كفيلٌ بأنَّ يمسح كلَّ أثـر لمصدر الإرسال بحيث يحمي المرسِل من ملاحقات الجهات الأمنيـّة .
ثم إنّ هذه الدعوة قادرة أن تدخـل كلَّ بيت ، وكلَّ مكتب ، بل كلَّ جيب ، يحمـل جهازا محمولاً ، صغيرا كان أم كبيراً ، وما على الراغب في فضح الطغاة ، إلاّ أن ينسخ بلمسة ، ويرسل بلمسـة ، ثم العالم كله سيطلع على الحقائق .
ولاتستطيع أكبـر قـوّة إستخبارات في العالم أن تحول دون الناس وهذه الدعـوة .
ولما كانت الحريـّة هي عدوُّ الطغيان الأكبر ، كان الطغاة هـم أشـدّ المفسـدين في الأرض محاربـة للحرية .
أما في بلادنا العربية فقد وضعوا الأغلال على وسائل الإعلام ، بل الأقلام ، وأجهزة الكمبيوتر ، بل العقـول فأرهبوها أن تفكر إلاَّ وهي تتخيـّل هراوات الشرطة ، و( كلبشات ) الدرك ! لتبقى الشعوب قطعانا تولد في مستشفيات الولادة المهترئة ، لتدفن على حسابها في بعض الدول _ في المقابـر الموحشة ، وتعيش بين ذلك تحمـِل هم سعـر الشعير !
هذا إذا كانت الحرية للإصلاح السياسي ، أما إن كانت لشتم الدين ، وحـرب الفضيـلة ، فمرحـبٌ بها أيمُّـا ترحيب ، لأنها لاتزيد الناس إلاَّ تعبيدا للسلطة السياسية.
الثالثة : هذه الوثائق تكشف أنّ ما يقـرّره المفكـّرون الشرفاء من أنّ السياسة الغربية بقيادة أمريكا تمــلأ شعوب الأرض خارجها ظلمـا ، وجـورا ، ليس إنجرارا وراء ( نظرية المؤامرة ) ، بل هو الحقيقة الماثلة جهارا ، نهارا ، كالشمس الساطعة في رابعة النهـار .
الرابعة : كشفت ثورة الويكيليكس أهمية ( الضمير العالمي ) ، وكسبه إلى صـفّ قضايا أمتنا ، وأنَّ العالم مليءٌ بالشرفاء الذي يمكننا ضمّهم إلى حقّنـا ، والإستفادة من جهودهم لتحريرنا والعالم من الطغيان العالمي .
فهذا مؤسس الويكيليكس تعرض لمحاولات إبتزاز هائلة ، فلم يصدُّه ذلك عن عزمه نشر الوثائق _ وكـم من شيوخ الدين المزيّفيـن عندنـا مستعدون أن يفتـوا بما لايتوقعه إبليس نفسه لإرضاء الساسة الظلمة ، وقامـوا بإضفـاء القداسة المطلقة على أقـذر سلطة ، مقابل منصـب وضيع ، أو شيك بأموال الحـرام رقيـع _ كما تعرض أعوان مؤسس الويكيليكس إلى مضايقات كثيرة ، فزادهم ذلك إصرارا على ماعزموا عليه .
ولاريب أنَّ أجواء الحرية التي تعيش فيها هذه النماذج ، وتتنفّس هواءها النقي ، هي الأمُّ التي أنجـبتها ، والتربة التي أنبتـتها .
وكلُّ ذلك يرجع إلى حقيقة جاء بها الإسلام ، غير أنَّ الغرب هو الذي بات يُسيِّدها في شعوبـه _ على عكس ما يعامل به ساساتهم شعوبنا _ ، فسـاد بهـا :
وهـي أنَّ الإنسان الفرد بقيمته الإنسانية ، وتمتُّعـه بحرياته الأساسية ، هو الأصل الذي ينبني عليه كلُّ من : النظام السياسي ، والعقد الإجتماعي ، والثقافية المجتمعية ، وجميع القوانين ، والعلاقـات .
ولهذا السبب لاتجد في البلاد التي تسودها هذه الحقيقة ، ألقاب النفاق التي تضفى على الزعماء ، بالجلالة ، والسموُّ ، والمقام السامي ، والعظمة .. إلخ ، ولا تعليق صورهم البائسة في كلِّ مكان فوق رؤوس العباد ، ولا الهتـاف بأسماءهم الملعونة في كلِّ موقف ، ولايبـدو معهم رجال الكنيسة في وسائل الإعلام ، قاعـدين معهم على كراس الظلم ، على اليمين والشمائل سُجـَّدا لطغيانهـم ، لإضفاء الشرعية المزيـفة عليهـم !
لأنهم هنـاك _ ببساطـة شديدة _ موظفـون ، ينوبون عن شعوبهم في حفظ حقوقها ، وضمان عدم المساس بحريّاتـها ، وكراماتها ، فإن بـدى منهـم تسخيـر السلطة لأشخاصهم ، أطيـح بهم وأتي بغيرهـم .
هذه هي القاعدة السياسية الأولى ، والثقافة المجتمعية المقدسة ، والقانون الإجتماعـي الأعلى الذي ميزت به تلك الشعوب أنفسهـا عن البهائم .
وهذا بعينه هو النظام السياسي الإسلامي ، الذي شوه صورته ، فقهاء التسول ، ووعاظ البـلاط ، وعلماء السوء.
الخامسـة : أنَّ سـرّ هذه القوة على فضح الطغيان الأمريكي ، يكمـن في الصغـر ، والسرعـة ، فلولا القدرة على تصغير المعلومات ، وما يحملها من آلات ، إلى درجة بالغة الدقة ، وسرعة نسخها ، ونقلهـا ، لم يمكن تسريبها ، ولا بثَّهـا عبر الإنترنت إلى هذا الموقع ، فسبحان الله الذي جعل هزيمة القوة الهائلة ، بالآلات المتناهية في الصغـر !
وذلك كما يصرع الفيروس الإنسان المتجبـِّر ، وتتفجـَّر الطاقة المدمـّرة الهائلة من نواة الذرة ، والله على كلِّ شيء قدير ، وهاهـو الإنسان من أصغر المخلوقات في الكون ، بينما هـو مركزه ، وله خلق الله تعالى المخلوقات بأسرها .
وختاما فإنَّ الحدث هائل ، وخطيـر ، وفيه من العبر ما هو أكثر من هذا بكثيـر ، وعلى قادة الفكر الإسلامي أن يرصدوه ، ليستفيدوا منه في إشعال عوامل النهضة ، وجمع مقومـات العودة الحضارية لأمّتـنا.
وأهم ذلك السعي لتأسيس موقع عربي مماثـل ، يحث الشرفاء في مؤسسات السلطات السياسية في بلادنا على التأسِّي بما صنعه الويكيليكس ، بفضح : الظلم ، والطغيان ، وإنتهاك حقوق الإنسان ، ومصادرة الحريات ،
هذه الجرائم التي أصبحت _ وياللأسى _ العنوان الرئيس للأنظمة السياسية على طول الخارطة العربية وعرضها .
ومعلوم أنـّه لاخلاص لأمّتنـا إلاّ بإلحاق الهزيمـة الساحقة بالظلم ، بجميع أنواعه ، وعلى رأسـه ظلم العقل بمنعه أن يفكر إلاّ كما تريد السلطة السياسية ، وظلم اللسان بمنعه أن يتكلم إلاّ بما يرضى السلطة السياسية ، وظلم الإبداع الإنساني بمنعه أن ينطلق إلاّ في دائرة شهوات السلطة السياسية !!
هذا هو الظلم الذي جثم على أمتنا ، فجعلها مسخرة لأطماع الأجنبي ، ومسيرة بأهـواء طغاة العالم.
وبهذه المناسبة ندعو المحسنين من المنفقين في وجوه الخير ، أن يلتفتوا إلى أهميـة الإنفاق في هذه المؤسسات التي تحارب الظلم ، وأهمُّها المؤسسات الإعلامية ،
وأنه أهـمُّ من كثيـر من الأموال التي تذهب في وجوه أخرى تؤول إلى نفع لايلبث حتى ينقطـع ، أو يبقى محصور الفائدة.
وفي شريعتنا العظيمة حديث ( خير النَّاس أنفعهم للناس ) ، وأيُّ نفع أعظـم من رفع الظـلم عن المظلومـين ، فكيف إذا كان المظلوم أمّة بأسـرها ، تسلَّط عليها أخبث الطغـاة فحرموهـا من جميع حقوقها ؟!!
والله حسبنا ، عليه توكلـنا ، وعليه فليتوكّـل المتوكّلـون.