مجدي أحمد حسين يكتب : لعبة ويكيلكس.. عمل مخابراتى على أعلى مستوى
_______________________________________
تسريب مئات الآلاف من الوثائق الأمريكية على موقع ويكيلكس ليس عمل فرديا لروبين هود أو أى بطولة فردية مزعومة. فعمل على هذا المستوى والحجم ويتسم بقدر عال من الخطورة لمن يقوم به لا يمكن تفسيره إلا بأنه عمل مخابراتى على أعلى مستوى. وهذا العمل يضلل هدفه الرئيسى من خلال نشر أشتات من المعلومات فى اتجاهات مختلفة وتمس مختلف دول العالم، وليس من السهل اكتشاف الهدف الرئيسى من هذا التسريب المخيف لأول وهلة. ولكن من الواضح حتى الآن أننا أمام جناح داخل السلطة الأمريكية يستهدف خلخلة الأرض من تحت أقدام إدارة أوباما ويخرجها أمام العالم بأسره بدءا من عجزها عن حماية وثائقها وصولا إلى المضمون المحرج فى هذه الوثائق. أما فيما يتعلق بمنطقتنا فإن الهدف من النشر واضح للغاية, وهو إحراج النظام العربى فى مواقفه المزدوجة من المقاومة اللبنانية والفلسطينية وإيران. والهدف هو الإعلان عن أن هناك جبهة عربية رسمية متراصة مع إسرائيل وأمريكا فى هدف ضرب إيران وبرنامجها النووى, بل تبدى حماسا أكبر من أمريكا ذاتها فى هذا الاتجاه. وقد سبق أن قلت ذلك فى برنامج فضائى منذ أكثر من عامين, فقلت أن التردد الأمريكى فى ضرب إيران يعود للحسابات الأمريكية, وليس لأى ضغوط عربية. وأن أمريكا إذا قررت ضرب إيران فسيقف النظام الرسمى العربى صفا واحدا خلفها فى الممارسة العملية (تسهيلات عسكرية - حصار اقتصادى) مع بعض النفاق الإعلامى, كما حدث مع العراق, بينما سيظل الإعلام الرسمى يردد أنه ضد الحرب ولكنه يحمل إيران المسئولية!!
إذن هذا التسريب يمكن أن نحسبه على التيارات الأكثر تشددا فى النظام الأمريكى (الجمهوريين) والصهاينة، خاصة وهو يأتى فى توقيت عجيب. هزيمة الديمقراطيين فى الكونجرس مما يمهد لهزيمة أوباما فى انتخابات الرئاسة. وفى لحظة يصل فيها الشد والجذب مع إيران إلى نقطة حرجة, فنحن على أبواب جولة جديدة وقد تكون الأخيرة للمفاوضات, والعقوبات الاقتصادية تتصاعد. فى وقت بدأت فيه نغمة العودة للخيار العسكرى تتصاعد, وقد جاءت تسريبات ويكيلكس متطابقة مع تصريحات المسئولين الإسرائيليين المتواترة عن وجود جبهة واحدة من الحكام العرب مع إسرائيل ضد خطر التشدد الإسلامى والإرهاب وضد خطر إيران. وأى محلل لا يتفاجأ بكل ما جاء فى التسريبات, ولكنها بالنسبة للمواطن العربى تبدو صادمة وكاشفة لحجم الزيف والنفاق. والجناح الأمريكى المتشدد الذى يسرب هذه الوثائق لا يقصد الإحراج الشخصى لهؤلاء الحكام وهم أصدقاء لواشنطن. ولكن يقصد دفعهم لسد الفجوة بين ما يقولونه سرا وما يقولونه علنا، والأهم من ذلك سد الفجوة بين موقفهم الحقيقى والمتطلبات العملية لهذا الموقف. ورغم أن الإعلامى الرسمى العربى, خاصة المصرى - السعودى بالغ السوء فى الهجوم على إيران, وحماس, وحزب الله - مع ملاحظة أن المصرى أسوأ من السعودى - إلا أن أمريكا لا تكتفى بذلك بل تريد أن تعلن هذه الدول الحرب المقدسة على إيران. وأمريكا تحتاج قوة عسكرية من العرب، وهى مسيطرة بالفعل على قواعدها بالمنطقة، والتسهيلات التى تحصل عليها من 10 دول عربية، ولكنها تريد المشروعية العربية - الإسلامية فى حربها على إيران. بل ترى أمريكا التعبئة العربية إعلاميا وسياسيا ستكون خانقة لإيران أكثر من الحصار الاقتصادى، وأن هذا قد يدفعها للتنازل أمام مطالب أمريكا، وتتجنب أمريكا الحرب وويلاتها. ولكن من الصعب على الحكام العرب وإعلامهم أن يمارسوا الفجور أكثر من ذلك، وهذا هو دور ويكيلكس فهذه التسريبات تقول: إذا كنتم تحرصون على صورتكم أمام شعوبكم، فقد كشفنا الصورة الحقيقية، وتعالوا نتفاهم فى خطة خنق إيران!
كان أهم تعليق على وثائق ويكيلكس هو تعليق بتريوس وزير الدفاع الأمريكى حيث قال: قد تكون الوثائق محرجة.. وهى محرجة، ولكن لا أهمية لذلك فالدول التى تتعامل معنا.. ستظل تتعامل معنا لأن مصلحتها فى ذلك، فالمهم أن تكون محتاجة إلينا، وزاد الأمر وضوحا بالقول: "الحكومات تتعامل مع الولايات المتحدة لأن ذلك من مصلحتها، وليس لأنها تقدرنا وليس لأنها تثق بنا، وليس لأنها تعتقد أنه يمكن حفظ أسرارها. هناك حكومات تتعامل معنا لأنها تخشانا وحكومات أخرى لأنها تحترمنا، وغالبيتها لأنها تحتاج إلينا". وهذا الكلام قاله من قبل كثير من كتاب الإستراتيجية الأمريكيين، فأمريكا تدير علاقاتها مع العالم على أساس القوة وليس على أساس المحبة أو الإعجاب أو حتى الاتفاق فى الآراء! ولذلك فإن الجهة التى سربت هذه الوثائق لا تهتم بحكاية "الإحراج"، لأن العلاقات مع أمريكا قائمة على الإكراه والمصلحة والميثاق الغليظ، وأمريكا لديها أدوات كافية لسوق التابعين لها إلى حيث تريد فى القضايا الأساسية.
وحتى بالنسبة لحزب الله فقد كشفت الوثائق العلاقات السرية بين وزير الدفاع اللبنانى والجيش الأمريكى الذى يسير طائرات تجسس فوق أجواء لبنان ويعطى المعلومات للسلطة اللبنانية (وطبعا لإسرائيل) كما كشفت الوثائق التعاون المخابراتى بين رئيس محكمة اغتيال الحريرى والولايات المتحدة.
ولكن أخطر هذه الوثائق طرا، هى المتعلقة بالاقتراح السعودى - على لسان وزير خارجيتها سعود الفيصل - بأن تقوم قوة عسكرية عربية مدعومة من الجيش الأمريكى وحلف الناتو بالقضاء على حزب الله فى لبنان، وأن هذه الخطة تم إبلاغها لمصر والأردن والجامعة العربية!! وأمريكا هى التى لم تستجب لحساباتها الخاصة، ولإدراكها صعوبة تحقيق هذا الهدف.
ويسعى الأمريكان والصهاينة الآن للعبة خطرة وهى توجيه الاتهام لحزب الله باغتيال الحريرى، لتفجير الساحة اللبنانية من الداخل، بعد فشلهم فى القضاء على حزب الله عسكريا. ويصعب التنبؤ بمجريات الأحداث بلبنان، ولكن الأمر المؤكد أن هذه المؤامرة الجديدة ستسبب متاعب لحزب الله، ولكنها لن تحقق مبتغى الأعداء فى القضاء على قوته العسكرية. ويتوازى مع ذلك تصعيد جديد ضد سوريا والمطالبة بتفتيش منشأة دير الزور المدمرة. ولم يكن من قبيل الصدفة تسريب وثيقة تتضمن أقوالا لبشار الأسد غير جيدة تجاه حماس، وهو أمر فيه تلاعب كثير لأن الكلام مبتور للغاية. إذن المحور اللبنانى - الفلسطينى - السورى - الإيرانى هو الهدف الأساسى من هذه التسريبات، لإذكاء نار الفتنة بين هذا المحور وعرب أمريكا وبين كل الأطراف بعضها البعض. وقد أثمرت هذه التسريبات بشكل أولى تجاه إيران، إذ أعلن تجمع دول الخليج بيانا أكثر تشددا ضد إيران, وفى محاولة مفضوحة لسد الفجوة مع التسريبات، فكرروا بعض ما جاء فيها، إذ طالبوا بضرورة أن تطلعهم الدول الغربية على المفاوضات مع إيران!!
ولو كانت أمريكا - أو التيار المتشدد داخلها - بما يكفى من القوة لما لجأت لهذه الأساليب الملتوية، التى تراهن على إحداث الفتن. والأمر المؤكد أن محور المقاومة والصمود لن يتأثر بذلك لأنه يعلم أن قوته الذاتية هى الدرع الذى يحميه، وقد عزز هذا المحور الموقف التركى الذى يزداد صلابة مع الأيام (انظر تصريحات أردوجان خلال زيارته للبنان ضد إسرائيل) ولذلك نال الجانب التركى نصيبه من تسريبات ويكيلكس. ونال السودان نصيبه بتأكيد أنه تعرض لقصف أمريكى مرتين على قوافل سلاح متجهة لحماس. وهناك كذلك محور مكمل لهذه التسريبات هدفه واضح للغاية، وهو سد الفجوة بين موقف الدول العربية (الصديقة لأمريكا) السرى والمعلن تجاه الإرهاب وتنظيم القاعدة. فإعلام هذه الأنظمة يهاجم بعض ممارسات أمريكا كمعتقل جوانتنامو، وتزعم هذه الأنظمة أحيانا أنها قادرة على معالجة واستيعاب قضية الإرهاب بأسلوب أكثر حكمة من أمريكا فأرادت هذه التسريبات أن تضع ظهر هذه الأنظمة إلى الحائط حتى تعمل فى إطار الخطط الأمريكية فى صمت بدون أى شقشقة أو إدعاء حكمة، فقد دارت التسريبات حول أن هؤلاء الحكام أكثر قسوة على الإرهابيين من أمريكا، فطالب حكام الكويت بالتخلص من معتقلى جوانتنامو من مواطنيهم أو إلقاءهم فى أفغانستان ليموتوا هناك، واقترح حاكم السعودية وضع شرائح فى أجساد مواطنيه ليتم تتبعهم إلكترونيا، وكان الرد الأمريكى أن ذلك العمل مناف للقانون!!
وكان المفترض لهؤلاء الحكام بكل المعايير أن يستقبلوا مواطنيهم ويحاولوا إعادة تأهيلهم وإعادة دمجهم فى المجتمع! أما نصيب الأسد فى هذا المجال فكان للرئيس اليمنى الذى طالب بالحصول على عدة ملايين من الدولارات مقابل ذلك، وهذه أول مرة نسمع عن حاكم يتاجر بهذه الصورة الفجة فى مواطنيه! أما قوله - الذى ستسير به الركبان - فهو اقصفوا اليمن، وسنقول أن القصف يمنى!! وقد كنا نستنتج ذلك وقد ذكرت أكثر من مرة فى مقالاتى أن القصف الجوى بطائرات بدون طيار فوق اليمن هو قصف أمريكى، أما عندما نقرأ ذلك فى وثيقة رسمية على لسان حاكم اليمن فهو دليل دامغ على خسة حكامنا ومدى تدهورهم وانحطاط حسهم الوطنى, والعجيب أنه لما سقطت طائرة أمريكية على سواحل اليمن، أعلن اليمن أنها طائرة إيرانية!! وقد نال حكام باكستان شيئا مماثلا حيث سمحوا بقوات أمريكية مقاتلة على أرض باكستان سرا، وأن القصف الجوى الأمريكى يتم فى باكستان بموافقتهم. وكذلك حكام الجزائر الذين سمحوا بطائرات تجسس أمريكية فوق أرض المليون شهيد!! بحثا عن أفراد القاعدة!! هذه عينة من حبات عقد المذلة الرسمية العربية، لأن مواجهة جماعات العنف من مواطنين داخل الدولة، هى مسئولية وطنية، وهى لا تعالج بأساليب العنف المضاد للإرهاب فحسب, ولكن ببحث الأسباب العميقة وراء هذه الظاهرة، وإن خيانة هؤلاء الحكام هى أساس الظاهرة، ولكن كيف للخونة أن يعالجوا المشكلات الناجمة عن خيانتهم؟!
رسالة هذه التسريبات تقول لهؤلاء الحكام لتواصلوا العمل معنا (الولايات المتحدة) بدون ادعاءات وطنية أو سيادة أو حكمة، وبدون برطمة!!
*******
ومع ذلك، ورغم كل ذلك.. تظل تسريبات ويكيلكس لعبة تكشف قلة حيلة وخيبة وسائل معسكر الشر الصهيونية - الأمريكى، وهى لن تفيد أمريكا كثيرا، لأن الصراع المكشوف مع الأمة العربية - الإسلامية هو الذى سيحسم النتائج النهائية، على يد المقاومة العربية - الإسلامية، وأن الحكام العرب الموالين لأمريكا سيظلون هكذا بين شقى الرحى, حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
مجدى أحمد حسين
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق