كاتب من الاردن
يقودونَنا مِن نَواصِينا إلى حُتُوفِنا ونحنُ خانِعُونَ أذِلَّة. جَهَلَةٌ سَماسِرَةٌ يمْتَطُونَ ظُهورَنا بالوِراثَةِ أو بالحِراثَةِ ونحنُ لاهُونَ في حِياكَةِ السُّرُجِ الفاخِرَةِ والرِّحَالِ المَتينةِ كي لا ينزَلِقُوا عَنها، وفَتْلِ الحِبالِ حتّى نُقادَ بالخِطَامِ أطْولَ مُدّةٍ ممكِنَة ريثَما يُسلِمُ الواحدُ منهُم زِمامَنا لوريثِه. أيُّ مِيراثٍ متميِّزٍ نحنُ، وأيُّ دَوابَّ: منّا مَن يسيرُ على رِجْلَينِ، ومنّا من يسيرُ على أربع، ومنّا من يزحَفُ على بَطْنِه، ومنّا مَن يتربَّعُ الأرضَ على يديهِ ورُكْبَتَيه!
منذُ قالَ ابنُ أبي سُفيانَ في النُّخَيلَةِ بظاهرِ الكُوفةِ يخطبُ النّاسَ ضُحَى جُمْعَةٍ: 'ما قاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا، وَلا لِتَصُومُوا، وَلا لِتَحُجُّوا، ولا لِتُزَكُّوا، وقَدْ أَعْرِفُ أنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذلِكَ، ولكِنْ إِنَّما قاتَلْتُكُمْ لأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُم، وقَدْ أَعْطانِي اللهُ ذلِكَ وأنتُمْ له كارِهُونَ'، وقالَ بعدَهُ المنصُورُ العبّاسيُّ في خطبتِهِ يومَ حَجَّ: 'أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّما أنَا سُلْطَانُ اللهِ في أَرْضِهِ، أَسُوسُكُمْ بِتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِه، وَأَنَا خازِنُهُ على فَيْئِهِ، أَعْمَلُ بِمَشِيئَتِه، وأَقْسِمُهُ بِإِرادَتِه، وَأُعْطِيهِ بِإِذْنِه! قَدْ جَعَلَنِي اللهُ عليهِ قُفْلاً، إذَا شاءَ أَنْ يَفْتَحَنِي لأَعْطِيَاتِكُم وَقَسْمِ فَيْئِكُم وأَرْزَاقِكُم فَتَحَنِي، وإِذَا شاءَ أنْ يُقْفِلَنِي أَقْفَلَنِي' منذُ تلكَ العُصورِ الغابرَةِ ونحنُ عَبِيدٌ وهؤلاءِ آلِهَة: تأمرُ فنُطِيع، وتقتُلُ وتسلبُ وتنتهِكُ الحُرُمات وترضى لَنا الهَوانَ، فنرضَى لأنَّ رضاهُم رِضَى الله! ومُتسوِّلُونَ على مَوائدِهم وخَزائِنِهم: يُلقُونَ لَنا فُتاتَ مَوائدِهم، ويَهَبُونَنا جَزِيلَ لُقمِهم، ويَمُنُّونَ علينَا بأنّا نَجِدُ في بِلادِنا الطّحينَ لنأكُلَ خُبْزا، فإذا جادُوا عَلَيْنا خفّفُوا عنّا ضريبةً ليسلُبونَا عِوَضَها جُمْرُكًا أو رَسْمًا في الفاتُورَةِ مَجْهُولا، وإذا رَفَعُوا عنّا رَسْمًا أنزَلُوا بِنا لَعَناتِ تحريرِ الأسواقِ والسِّلَعِ، وسلَّمُوا رِقابَنا لِتاجرٍ أو مستَثْمِرٍ يَظْهَرُ عَلَيْنا ثمَّ لا يَرْقُبُ فِينا إلاًّ ولا ذِمَّةً!
بأيِّ وجهٍ نَعِيشُ ونقتَحِمُ أهْوالَ الأرصِفَةِ والطُّرقات، ونتناحَرُ على اللُقمَةِ غيرِ السّائغة؟ وبأيِّ وجهٍ سيَرانَا أحفادُنا من بعدُ في صُورِنا الباهِتَةِ التي نُخلِّفُها على المَناضِدِ حولَهُم، أو نعلِّقُها على الجُدرانِ الرّماديَّة؟ وبأيِّ وجهٍ نُقابلُ مَن وهَبَنا المعنَى الأكبرَ لوُجودِنا حينَ برَأنَا: الحُرِّيَّة!؟
نُؤلِّهُ الحجّاجَ ونبذُلُ الأرواحَ دِفاعًا عن سِيرَتِهِ ومسيرَتِهِ الدَّمَوِيَّتَينِ، حتّى لقد كانَ في عُنُقِه دِماءُ ثلاثينَ ألفًا يومَ موتِه، وفي سُجونِهِ مائةُ ألفٍ فِيهم آلافُ النِّساء، وضربَ الكَعْبَةَ بالمَنْجَنِيقِ وأحْرَقَها، ثُمَّ يُهاجِمُ بعضُ المتنوِّرينَ منّا أمثالَ هذِه الأَصْنَامِ! ونُؤلِّهُ عُثْمانَ (رض) قَبْلَهُ حينَما ولَّى بَني أميَّةَ سُفيانِيِّينَ ومَروانِيِّينَ على الولاياتِ بضَعْفِهِ تُجاهَ قَوْمِهِ، حتّى نَهَبُوا البِلادَ واستأثَرُوا على العِبادِ، وتَطاوَلُوا على النّاسِ حتّى لكأنَّهُم خُلِقُوا خَوَلاً لَهُم، وثارَ عليهم النّاسُ، ثُمَّ نلُومُ بلَدًا استَولَى على مُقدَّراتِهِ أُمراؤُهُ وعِجْيانُهُم! نرسُمُ صُوَرًا مِثاليَّةً لتاريخٍ مليءٍ بالظُّلْمِ والفُجورِ والفِسْقِ والاستئثارِ والسَّجْنِ والقَتْلِ، ونَدْفَعُ الرّواياتِ التَاريخيَّةَ التي وصَّفَتها المصادرُ بقتلِ ابن المقفَّعِ وابنِ جَبَلَةَ العَكَوَّكِ وابنِ مُقْلَة والسُّهْرَوَرْدِيّ والحلاّجِ، وصبِّ الرّصاصِ المصهُورِ في أجسادِ بعضِهِم، ووضْعِ بعضِهمْ في التَّنُّورِ ليُشْوَى، وقَطْعِ أجسادِ بعضِهِم قِطَعًا، وشَطْرِ بعضِهِم بالسّيفِ شَطرينِ وتعليقِ كُلِّ شَطرٍ على سارية، وتعريةِ بعضِهِم في الشّوارِع من ثيابِهِم وصلبِهِم وجلدِهِم، وقطعِ ألسِنَةِ بعضِهِم أو سَلِّ اللسانِ مِنَ القَفَا، ... ننسَى هذا كُلَّهُ ممّا عاناهُ الأدباءُ والمفكّرونَ والمُخالِفُونَ وأصحابُ الرَّأيِ على مدارِ التّاريخِ، ونُزيِّنُ أفعالَ مَنْ اقترفُوا تلكَ الجرائِم، ثمّ نُهاجِمُ أفعالَ بعضِ دِكْتاتُورِيِّي عصرِنا العربيِّ الهَزيل!!!
مَنْ أرادَ أن يتخلَّصَ من عُبودِيَّتِهِ عليهِ أن يرفُضَ كُلَّ استعبادٍ يُمارَسُ على وجْهِ الأرضِ، تُجاهَ أيِّ كائنٍ بشريٍّ، أو مُورِسَ في ما مضى تُجاهَ أبناءِ قومِهِ وحضارتِهِ في أقلِّ تقدير. مَنْ أرادَ أن يكُونَ حُرًّا ينبغي لهُ أنْ يكُونَ مَع الأحْرارِ لا ذَيلاً تابعًا للذُّيولِ التّابِعَة. مَن أرادَ أن يكونَ إنسانًا فليَقِفْ في وَجْهِ كلِّ الممارساتِ اللاإنسانيَّةِ في مُجْتَمِعِه ومِن حَولِهِ وفي العالَمِ كُلِّه. مَنْ أرادَ أنْ يكونَ مُنسَجِمًا مَع نفسِهِ عليهِ أن يتخلَّصَ مِنْ تزيينِ الظُّلْمِ الذي تضمَّنَهُ التَاريخُ لأنَّهُ بذلكَ لا يُزيِّنُ الظُّلْمَ الواقِعَ عليهِ أو على أبناءِ جِلْدَتِه. مَنْ أرادَ أن يكُونَ مرفُوعَ الرّأسِ عليهِ أن لا يَحْنِيَ ظَهْرَهُ لأحَد؛ لأنَّ الرّاغِبينَ في رُكوبِهِ كَثيرُون. من أرادَ أنْ لا يُفكِّرَ أحدٌ من الأقوياءِ باستعمارِهِ واستضعافِهِ عليهِ أنْ يكُونَ كبيرًا ولا يُبدي أيَّ ضَعْف. مَنْ أرادَ أنْ يكونَ لهُ مكانٌ على الأرضِ وتحتَ الشَّمسِ عليهِ أنْ يتعلَّمَ إباءَ الضَّيمِ وثَباتَ القدَمَيْنِ في التُّراب. مَن أرادَ أن يحتَرِمَهُ الآخَرُونَ عليهِ أن يحتَرِمَ نفسَه...
الاستِعْبادُ شَهْوَةُ المستكبِرين، لكنَّهُ لا يتحقَّقُ إلاّ بشَهْوَةِ العَبيدِ للعُبودِيَّة. الإذلالُ عُقدَةُ نقصٍ مُركَّبَةٌ مغرُوسَةٌ في نُفوسِ بعضِ المرضَى النَفسيّين، لكنَّهُ لا يتحقَّقُ إلاَّ بعِشْقِ الأذِلَّةِ لِذُلِّهم وخَشيَتِهِم من أن يكُونُوا أعِزَّة.
إنَّ القابِليَّةَ للعُبودِيَّةِ هي المُمهِّدُ للاستِعْباد، وإنّ الرِّضَى بالظُّلْمِ هُو المُمَهِّدُ للاستِبْداد. وإنّ التَّأليهَ هُو الممهِّدُ للتَّألُّه، وإنَّ الخُنوعَ والخُضوعَ هُما الممهِّدانِ للإمعانِ في امتِطاءِ صَهَواتِ الظُّهور، وإنَّ الانصرافَ عَنِ الكُلِّيّاتِ والقضايا العامَّةِ إلى السَّفاسِفِ والتَّوافِهِ والشَّخْصَناتِ و'تَدْييرِ النّارِ على القُرصِ' الخاصِّ هُو الممهِّدُ لاستِئْثارِ المتربِّصِينَ والعَبَثِ بالمُقدّراتِ، وإنَّ السُّكُوتَ على الظُّلمِ الصّغيرِ هو المُمَهِّدَ للتُّطاوُلِ واللجاجَةِ والظُّلْمِ الكَبِير.
رَحِمَ اللهُ كلَّ الصَّعاليكِ الذينَ رفضُوا الخُنوعَ لِنِظامٍ قَبَلِيٍّ ظالِم، فخرجُوا عليهِ ليُحصِّلُوا حُقوقَهُم بالقُوَّة. ورَحِمَهُم يومَ غيَّبَهُم النقّادُ والرُّواةُ الذينَ تَواطَؤُوا مع السُّلْطانِ لكي لا يكُونَ لِحَرَكَتِهم أيُّ تأثِير لاحِق. ورَحِمَ اللهُ أَخَا غَفَار الذي ما أظلَّتِ الخَضراءُ ولا أقلَّتِ الغَبْراءُ أصدقَ لَهْجةً منهُ، ذاكَ الذي آمنَ وَحْدَه، وماتَ بالرَّبَذَةِ وَحْدَه، ويُبْعَثُ يومَ القيامَةِ وَحْدَه، حينَ قال: عَجِبْتُ لِمَنْ لا يَجِدُ قُوتَ يَوْمِهِ كيفَ لا يَخْرُجُ في النّاسِ شاهِرًا سَيْفَهُ!!!
كاتب من الاردن
هذا المقال يحتوي على افتراءات على صحابة كرام مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكن الرسالة الواضحة هي ألا يستمر المسلمون في الخضوع لفراعنة العصر الحديث !
ردحذفجزاكم الله خيرا
السيد